الخميس، 24 نوفمبر 2011

لبنان وسوريا نحو معادلة جديدة وتداعيات إستراتيجية

شفيق شقير
إن العلاقة بين لبنان وسوريا ليست مجرد معادلة سياسية فقط، بل هي عمق اجتماعي وثقافي فضلا عن السياسي والأمني، لذا يجب الأخذ بالاعتبار في الأيام القليلة المقبلة أن المعادلة التي تحكم علاقة لبنان بسوريا إلى تغير، ولكن ضمن نفس الإطار الواسع الذي يجمع البلدين في إقليم واحد، وضمن علاقة تبادلية لا فكاك منها. والتغيرات المتوقعة على العموم كثيرة، ولكن تذكر الورقة اثنين فقط، باعتبار أنهما الأهم في السياق السياسي الحالي.

الأولى: التحالفات وعمقها المتجاوز للسياسة
لا حاجة للعودة للتاريخ والجغرافيا والاجتماع لتأكيد أن كل من لبنان وسوريا يشكل خاصرة رخوة للآخر بقدر ما يرتبط كل منهما بالآخر، وأن كل من البلدين يحتاج إلى حليف له ليشد من قوة هذه الخاصرة حتى لا يؤتى من قبلها. ومن هذا التفكير تمت صياغة الحتمية السياسية التي تحكم العلاقة بين البلدين أن استقرار حكم الحاكم في دمشق يكون بقدر استقرار الحكم له في بيروت، وأن استقرار حكم الحاكم في بيروت يكون بقدر الرضى الذي يناله من دمشق.
وبحسب العقل الإقليمي الذي يحكم المنطقة حكاما ومعارضة، إن أي تغير في المعادلة القائمة لا يخرج كثيرا عن هذا السياق، نعم ربما تنقلب الأدوار في يوم ما عكسيا ما بين حاكم بيروت وحاكم دمشق بحسب "قوة" أو "ضعف" أي منهما إقليميا أكثر من الآخر، ولكن بحسب المسار القائم الآن يبدو أن هناك تغيرات بدات ملامحها تتضح كلما ازدادت الأوضاع تدهورا في سوريا، لتتجه نحو صياغة توازن نسبي بين البلدين وفي البلدين، وكأن المعادلة الجديدة تتجه لأن تقول:
كما أن للنظام السوري حلفاء في لبنان وعلى رأسهم حزب الله وهو من هو، إن للمعارضة اللبنانية حلفاء في سوريا ألا وهي الثورة السورية وهي تمثل ما تمثل.
وتتميز المعادلة الجديدة بتكافؤ الطرفين في كون كل منهما قاطرة لمجموعة من المصالح والتوجهات الإستراتيجية الإقليمية والدولية والخيارات السياسية والطائفية، وأن كلا منهما يقف على أرض خصبة تنبت ما شاءت من الفرص لأصحابها للتدخل مستقبلا في الشأن السوري إلى أبعد الحدود، أو لإدارة الوضع اللبناني بما تمليه المصلحة العابرة لحدود البلدين إزاء بعضهما البعض.
والمعركة السياسية حاليا وسابقا (منذ الطائف إلى حد ما) يصح وصفها من بعض الوجوه، أنها كانت معركة بعض قوى هذا االإقليم الذي يتشكل منه لبنان وسوريا، حتى أن الصراعات التي أنتجت لبنانيا قوى 8 و14 آذار هي صراعات كانت موجودة في الأساس بين فريقين في مركز الحكم في دمشق، فريق هزم شر هزيمة وأقصي ومن معه عن السلطة ومراكز التأثير في بيروت ودمشق وتزامن معه أو جاء في سياقه مقتل الرئيس الحريري (وكان الحريري خلال بعض مراحل الفترة السابقة  أشبه بوزير خارجية لبنان وسوريا)، وفريق آخر انتصر واستأثر بالحكم مع مجيء الرئيس بشار الأسد.
ومع استمرار هذا الترابط في المسار والمصير الذي حكم الحقبة الماضية وخدم الحكم في دمشق حينها، فإن المعارضة الحالية في الإقليم (في لبنان وسوريا)، تعمل وفق الترابط نفسه ليساعدها على إعادة صوغ خطابها وتطويره ليشكل ردا على جبهة الحاكمين في سوريا ولبنان، عمادها الأخلاقي أدبيات "الثورة والحرية" في وجه أدبيات "الممانعة"، وخوض معركة واحدة لإسقاط مواقع الحكم في الإقليم (سوريا ولبنان) باعتباره ساحة واحدة في بلدين، وكأننا نستعيد مقولة أن شعب لبنان وسوريا شعب واحد في بلدين، مع ما لهذه المقولات من استدعاءات لتحالفات إقليمية في السراء والضراء.

الثانية: المبادئ أبعد من السياسة
من المستحيل على أي قوة أن تدافع عن الحكم السوري وما في آدائه من مثالب بداعي الدفاع عن المعادلة السياسية القائمة في المنطقة دون أن تسقط أبعادا أخرى، لا تقل أهمية عن البعد السياسي لا بل قد تفوقه أو هي أسه في حقيقة الأمر.
ربما لهذا بادر بعض حلفاء الحكم في سوريا – الإستراتيجيين وحملة المبادئ منهم على وجه خاص- إلى إسداء النصح والإرشاد له- على استحياء ودون إنكار- كي لا ينسب إليهم كل ما يقرره أو يقوم به من أعمال وسياسات تجاه الداخل أو الخارج وتتناقض مع القيم والمبادئ التي يعلنونها، خاصة بعد أن طالت الأزمة السورية وكثرت أخطاء أجهزة الحكم السوري التي إن استمرت دون إنكار من قبل الحلفاء، فإنها ستسقط كل أخلاقيات السياسة والساسة في لبنان والمنطقة جميعا.
وفي هذا السياق من المفيد التذكير بالموقف نفسه، وبالحرج الذي تفطن إليه مبكرا الحليف التركي لسوريا حينها، وهو من أصحاب التوجهات الأخلاقية في الحكم على الصعيد المحلي والإقليمي، فهذا الحليف وجد نفسه ملزما بتأدية دور الناصح للحكم في سوريا كي لا يتشارك معه المسؤولية عما قد لا يرضى عنه المجتمع الدولي والشعوب العربية -خاصة بعد تجربة مريرة مع ليبيا- لا بل الشعب التركي نفسه(وحتما كانت ستتضرر منظومته الأخلاقية)، وتلقت أنقرة بسبب هذه السياسة اتهامات لا بل شتائم شتى من قبل حلفاء الحكم السوري في لبنان، قبل أن يعودوا لممارسة نفس الدور.
ويبدو أنهم جميعا اليوم، تركيا حليفة سوريا بالأمس وغريمتها اليوم، وحلفاء اليوم في إيران ولبنان، باتوا يدركون أن العلاقة ما بين سوريا وجوارها أبعد من السياسة، وأنها ساحة اختبار لكل الأخلاقيات والشعارات التي يحملونها.
ومن المستبعد أن ترد سوريا على هؤلاء الواعظين من حلفائها بالسوء، لأنهم على عكس تركيا لم يتركوا مسافة بينهم وبين الحكم السوري بل التصقوا به، ولكن "مصداقية" المبادئ التي يحملونها والتوجهات التي تميزهم وتبرر وجودهم ستكون على المحك، لأن القضية ليست اختبارا لمدى "الصدق مع الحليف" السوري، بل هي اختبار لمدى "الصدق في المبادئ والقيم والشعارات" التي عرفوا بها ودفعوا الغالي والنفيس من أجل تكريسها، وهذا لن يمر بدون خسائر معنوية وأخلاقية في صفوف هؤلاء الحلفاء، وذلك بغض النظر عن حقيقة الوضع السياسي القائم في سوريا الآن وأهدافه، أو عما سيؤول إليه وسيصب في مصلحة من، لأن السقوط الأخلاقي للسياسة في منطقتنا لا يماثل في نتائجه السلبية وتداعياته أي سقوط آخر في أي منطقة أخرى، فالمقاومة والممانعة فيها تقوم بالدرجة الأولى على اللحم الحي والصدور العارية وعلى قيم حديدية غير قابلة للجدل أو النقاش. ا.هـ