إلى الشيخ فيصل مولوي رحمه الله
عندما ينبض الموت بالحياة لا يمكن أن يُرثى، وحيث لا يموت الموت موتا، تشرئب الحياة بعنقها الطويل لتسخر من باطن الأرض: مهما امتلئتِ بالصور فإنك لن تنفخي فيها روحا.
عندما نمشي صمتا في مواكب الرحيل، ما نحن إلا في إصغاء لخطبة وداع أخرى من مشكاة النبوة جدائلها، حملتها القرون جديلة جديلة: من الأصحاب إلى الأحباء.
وعندما يعلو الطير الأخضر لا يهوي بل يرقى، فمسكنه أسمى من حشائش الأرض وما تنبت، وعيناه ترنوان لما فوق السحاب وأبعد: إقرأ وارقى.
أترى الليل ما يزال يضيء الأرواح الحزينة: يمسح ما أفصح عنه النهار ويُدبر، ويرفع أقواما اختبأوا من عيون النهار في يوم لا ليل له.
أما آن للرهبان أن يهجروا الصوامع لسقاية الحقول، فبذرة السماء وصية أهلها أن لا تروى إلا بماء الأرض، وأن اليد التي تغرس لا تشيخ ولا تبلى، لكنها تُرفع ولو شبهت لهم.
ومشى كتاب اللحظة طويلا وقليلا حتى كلت حروفُه أديم الأرض: واعجبا كيف تكل والركب لا زال في مسير، أوَجَدت الأرضَ غير الأرض وأنها في سفر لن تبلغه إلا بعد حين، أو إنك في خيالاتهم أكثر حقيقة من حقيقة يومهم وغدهم.
تقول النفس لتُشبع سؤال الرحيل: كيف لي أن أبقى وشوق أهل البقاء بَطَّأَ به عمله حتى قصر به سفره.
تقول النفس إن الأرض دار هجرة تتسع للسماء وما بعد السماء : ألا نهاجر فيها!
تقول النفس إن النفس لأمّارة بالسوء في إمَارة فيها سوء لن يصلحها إلا ورثة الكتاب، ثم تردف: ولكن لكل كتاب مبتدأ وأجل.
كشأن الكبار عندما يتركون جرحا غائرا في الروح لا يدركه إلا أهله، وقد جرت أبداننا على جروح الجسد والأهل والولد، فكل فقْد له جرحه وجرحك لا يأس فيه ولا بأس: هو إيقاظ من رقود كاد يكاد أبد.
هو الكون يعلم أنه سرمدي أبدي ما دام الأبناء يولودون كرة أخرى كلما مات آباء، وهو لا يحب الآفلين لأن أفوله يوم يأفلون، ويعلم أن شمس المغيب تهجر أوطانا، وكثيرٌ أن يدرك أن أوطانا قد تهجر شروق الشمس لأنها لا تغيب: فما بين المغيب والغيب مفاوز تطوى وقل من يدركها.
أعلم الآن: ما أن ينبض الموتُ بالحياة لا يمكن أن يُرثى، بل به يحتفى: بأزهار وأنهار وأنوار، بسجع الكلمات وباخضرار الأرض وربيعها، وبنور لا ينقطع يراه من بصره حديد.
تتراقص أمامي الكلمات مقهقهة وكأن الأرض على موعد مع الحصاد: لا ينفرط عقد كتاب إلا لينتظم في آخر، وكيف لا، فإن من نظم كل بديع في الكون لن يدع كلمة تسقط إلا بكتاب، لن يدع لفظا جميلا "كاستقم" حتى تستقيم طرائق الأرض لطريق السماء.
أرى ساعدا قد رفعته أكفٌ نحو أعلى، قوة تريد العهد وتخاف الوعد ولكنه عهد بالدعاء: ضع السيف موضعه وبيد أهله، فيكون قلماً يقرأ ما سُمع في الزمن الأول ليصلح به آخره. وما للزمن أولٌ وآخر، لكنها مواقيت يُؤرخ بها فقد العلماء.
إليك شيخي ولكل شيخ أنت هو وهو أنت، صوت فيصل بعد صمت أخرس مني الصوت، ما جاشت به النفس وهو غاية الأمر وبعده صمت تدب به الحياة، أرى الطعنات التئمت جراحها أملا بأنك في غد لا بأمس وإنّا في غد، وسأغلق الباب على الباب: إنّا لله وإنّا على الطريق حتى يوم الحساب. انتهى.
شفيق شقير