الخميس، 24 نوفمبر 2011

لبنان وسوريا نحو معادلة جديدة وتداعيات إستراتيجية

شفيق شقير
إن العلاقة بين لبنان وسوريا ليست مجرد معادلة سياسية فقط، بل هي عمق اجتماعي وثقافي فضلا عن السياسي والأمني، لذا يجب الأخذ بالاعتبار في الأيام القليلة المقبلة أن المعادلة التي تحكم علاقة لبنان بسوريا إلى تغير، ولكن ضمن نفس الإطار الواسع الذي يجمع البلدين في إقليم واحد، وضمن علاقة تبادلية لا فكاك منها. والتغيرات المتوقعة على العموم كثيرة، ولكن تذكر الورقة اثنين فقط، باعتبار أنهما الأهم في السياق السياسي الحالي.

الأولى: التحالفات وعمقها المتجاوز للسياسة
لا حاجة للعودة للتاريخ والجغرافيا والاجتماع لتأكيد أن كل من لبنان وسوريا يشكل خاصرة رخوة للآخر بقدر ما يرتبط كل منهما بالآخر، وأن كل من البلدين يحتاج إلى حليف له ليشد من قوة هذه الخاصرة حتى لا يؤتى من قبلها. ومن هذا التفكير تمت صياغة الحتمية السياسية التي تحكم العلاقة بين البلدين أن استقرار حكم الحاكم في دمشق يكون بقدر استقرار الحكم له في بيروت، وأن استقرار حكم الحاكم في بيروت يكون بقدر الرضى الذي يناله من دمشق.
وبحسب العقل الإقليمي الذي يحكم المنطقة حكاما ومعارضة، إن أي تغير في المعادلة القائمة لا يخرج كثيرا عن هذا السياق، نعم ربما تنقلب الأدوار في يوم ما عكسيا ما بين حاكم بيروت وحاكم دمشق بحسب "قوة" أو "ضعف" أي منهما إقليميا أكثر من الآخر، ولكن بحسب المسار القائم الآن يبدو أن هناك تغيرات بدات ملامحها تتضح كلما ازدادت الأوضاع تدهورا في سوريا، لتتجه نحو صياغة توازن نسبي بين البلدين وفي البلدين، وكأن المعادلة الجديدة تتجه لأن تقول:
كما أن للنظام السوري حلفاء في لبنان وعلى رأسهم حزب الله وهو من هو، إن للمعارضة اللبنانية حلفاء في سوريا ألا وهي الثورة السورية وهي تمثل ما تمثل.
وتتميز المعادلة الجديدة بتكافؤ الطرفين في كون كل منهما قاطرة لمجموعة من المصالح والتوجهات الإستراتيجية الإقليمية والدولية والخيارات السياسية والطائفية، وأن كلا منهما يقف على أرض خصبة تنبت ما شاءت من الفرص لأصحابها للتدخل مستقبلا في الشأن السوري إلى أبعد الحدود، أو لإدارة الوضع اللبناني بما تمليه المصلحة العابرة لحدود البلدين إزاء بعضهما البعض.
والمعركة السياسية حاليا وسابقا (منذ الطائف إلى حد ما) يصح وصفها من بعض الوجوه، أنها كانت معركة بعض قوى هذا االإقليم الذي يتشكل منه لبنان وسوريا، حتى أن الصراعات التي أنتجت لبنانيا قوى 8 و14 آذار هي صراعات كانت موجودة في الأساس بين فريقين في مركز الحكم في دمشق، فريق هزم شر هزيمة وأقصي ومن معه عن السلطة ومراكز التأثير في بيروت ودمشق وتزامن معه أو جاء في سياقه مقتل الرئيس الحريري (وكان الحريري خلال بعض مراحل الفترة السابقة  أشبه بوزير خارجية لبنان وسوريا)، وفريق آخر انتصر واستأثر بالحكم مع مجيء الرئيس بشار الأسد.
ومع استمرار هذا الترابط في المسار والمصير الذي حكم الحقبة الماضية وخدم الحكم في دمشق حينها، فإن المعارضة الحالية في الإقليم (في لبنان وسوريا)، تعمل وفق الترابط نفسه ليساعدها على إعادة صوغ خطابها وتطويره ليشكل ردا على جبهة الحاكمين في سوريا ولبنان، عمادها الأخلاقي أدبيات "الثورة والحرية" في وجه أدبيات "الممانعة"، وخوض معركة واحدة لإسقاط مواقع الحكم في الإقليم (سوريا ولبنان) باعتباره ساحة واحدة في بلدين، وكأننا نستعيد مقولة أن شعب لبنان وسوريا شعب واحد في بلدين، مع ما لهذه المقولات من استدعاءات لتحالفات إقليمية في السراء والضراء.

الثانية: المبادئ أبعد من السياسة
من المستحيل على أي قوة أن تدافع عن الحكم السوري وما في آدائه من مثالب بداعي الدفاع عن المعادلة السياسية القائمة في المنطقة دون أن تسقط أبعادا أخرى، لا تقل أهمية عن البعد السياسي لا بل قد تفوقه أو هي أسه في حقيقة الأمر.
ربما لهذا بادر بعض حلفاء الحكم في سوريا – الإستراتيجيين وحملة المبادئ منهم على وجه خاص- إلى إسداء النصح والإرشاد له- على استحياء ودون إنكار- كي لا ينسب إليهم كل ما يقرره أو يقوم به من أعمال وسياسات تجاه الداخل أو الخارج وتتناقض مع القيم والمبادئ التي يعلنونها، خاصة بعد أن طالت الأزمة السورية وكثرت أخطاء أجهزة الحكم السوري التي إن استمرت دون إنكار من قبل الحلفاء، فإنها ستسقط كل أخلاقيات السياسة والساسة في لبنان والمنطقة جميعا.
وفي هذا السياق من المفيد التذكير بالموقف نفسه، وبالحرج الذي تفطن إليه مبكرا الحليف التركي لسوريا حينها، وهو من أصحاب التوجهات الأخلاقية في الحكم على الصعيد المحلي والإقليمي، فهذا الحليف وجد نفسه ملزما بتأدية دور الناصح للحكم في سوريا كي لا يتشارك معه المسؤولية عما قد لا يرضى عنه المجتمع الدولي والشعوب العربية -خاصة بعد تجربة مريرة مع ليبيا- لا بل الشعب التركي نفسه(وحتما كانت ستتضرر منظومته الأخلاقية)، وتلقت أنقرة بسبب هذه السياسة اتهامات لا بل شتائم شتى من قبل حلفاء الحكم السوري في لبنان، قبل أن يعودوا لممارسة نفس الدور.
ويبدو أنهم جميعا اليوم، تركيا حليفة سوريا بالأمس وغريمتها اليوم، وحلفاء اليوم في إيران ولبنان، باتوا يدركون أن العلاقة ما بين سوريا وجوارها أبعد من السياسة، وأنها ساحة اختبار لكل الأخلاقيات والشعارات التي يحملونها.
ومن المستبعد أن ترد سوريا على هؤلاء الواعظين من حلفائها بالسوء، لأنهم على عكس تركيا لم يتركوا مسافة بينهم وبين الحكم السوري بل التصقوا به، ولكن "مصداقية" المبادئ التي يحملونها والتوجهات التي تميزهم وتبرر وجودهم ستكون على المحك، لأن القضية ليست اختبارا لمدى "الصدق مع الحليف" السوري، بل هي اختبار لمدى "الصدق في المبادئ والقيم والشعارات" التي عرفوا بها ودفعوا الغالي والنفيس من أجل تكريسها، وهذا لن يمر بدون خسائر معنوية وأخلاقية في صفوف هؤلاء الحلفاء، وذلك بغض النظر عن حقيقة الوضع السياسي القائم في سوريا الآن وأهدافه، أو عما سيؤول إليه وسيصب في مصلحة من، لأن السقوط الأخلاقي للسياسة في منطقتنا لا يماثل في نتائجه السلبية وتداعياته أي سقوط آخر في أي منطقة أخرى، فالمقاومة والممانعة فيها تقوم بالدرجة الأولى على اللحم الحي والصدور العارية وعلى قيم حديدية غير قابلة للجدل أو النقاش. ا.هـ

الخميس، 6 أكتوبر 2011

توبة بثورة، صفر جاور الحق فصار أمره أمرا

أن تكون رقما على جدار أخرس،
أن تكون سطرا في نص أبكم،
أن تظن أنك تكون وأنك لا تكون.
أأنت عبء ألقاه فائض من الدهر على فائض من الحياة،
أأنت تراب حملته ريح فلا استقر في أرض أو قر في سماء.
يأتي الجواب من أقصى المدينة يسعى،
يا قوم كنت صفرا جاور الحق بالحق فصار أمره أمرا،
أرى صقرا أصغى لصوتي المكلوم فسمعه أهل الأرض:
أنا طفل لا زالت حقيبتي على ظهري ولم تسقطها أسفارهم،
أنا أم وأب وما شئت من الخليقة لا أحمل رصاصة بجيبي،
بكت السماء يوما يأسا من يأسي، وفارقت جباها أدمنت أديم الأرض،
أرى اليوم ثغر السماء باسما وتسقي عبراتها شموع الحقول،
وتستعير البلقع عظام جسدي لتنهض بفرح الحياة،
ألا تلحظ عيون العشاق ترقب قمري المخضب بدم اليقين:
تترقب بداية شهور واكتمالها برؤية ثورة وولادة أخرى،
فأنا أموت لتحيا ثورة وأحيا لأرى أخرى فماذا بي تفعلون. 
-انتهى-
شفيق شقير

الاثنين، 25 يوليو 2011

عندما ينبض الموت بالحياة لا يمكن أن يُرثى


إلى الشيخ فيصل مولوي رحمه الله


عندما ينبض الموت بالحياة لا يمكن أن يُرثى، وحيث لا يموت الموت موتا، تشرئب الحياة بعنقها الطويل لتسخر من باطن الأرض: مهما امتلئتِ بالصور فإنك لن تنفخي فيها روحا.
عندما نمشي صمتا في مواكب الرحيل، ما نحن إلا في إصغاء لخطبة وداع أخرى من مشكاة النبوة جدائلها، حملتها القرون جديلة جديلة: من الأصحاب إلى الأحباء.
وعندما يعلو الطير الأخضر لا يهوي بل يرقى، فمسكنه أسمى من حشائش الأرض وما تنبت، وعيناه ترنوان لما فوق السحاب وأبعد: إقرأ وارقى.
أترى الليل ما يزال يضيء الأرواح الحزينة: يمسح ما أفصح عنه النهار ويُدبر، ويرفع أقواما اختبأوا من عيون النهار في يوم لا ليل له.
أما آن للرهبان أن يهجروا الصوامع لسقاية الحقول، فبذرة السماء وصية أهلها أن لا تروى إلا بماء الأرض، وأن اليد التي تغرس لا تشيخ ولا تبلى، لكنها تُرفع ولو شبهت لهم.

ومشى كتاب اللحظة طويلا وقليلا حتى كلت حروفُه أديم الأرض: واعجبا كيف تكل والركب لا زال في مسير، أوَجَدت الأرضَ غير الأرض وأنها في سفر لن تبلغه إلا بعد حين، أو إنك في خيالاتهم أكثر حقيقة من حقيقة يومهم وغدهم.
تقول النفس لتُشبع سؤال الرحيل: كيف لي أن أبقى وشوق أهل البقاء بَطَّأَ به عمله حتى قصر به سفره.
تقول النفس إن الأرض دار هجرة تتسع للسماء وما بعد السماء : ألا نهاجر فيها!
تقول النفس إن النفس لأمّارة بالسوء في إمَارة فيها سوء لن يصلحها إلا ورثة الكتاب، ثم تردف: ولكن لكل كتاب مبتدأ وأجل.
كشأن الكبار عندما يتركون جرحا غائرا في الروح لا يدركه إلا أهله، وقد جرت أبداننا على جروح الجسد والأهل والولد، فكل فقْد له جرحه وجرحك لا يأس فيه ولا بأس: هو إيقاظ من رقود كاد يكاد أبد.  

هو الكون يعلم أنه سرمدي أبدي ما دام الأبناء يولودون كرة أخرى كلما مات آباء، وهو لا يحب الآفلين لأن أفوله يوم يأفلون، ويعلم أن شمس المغيب تهجر أوطانا، وكثيرٌ أن يدرك أن أوطانا قد تهجر شروق الشمس لأنها لا تغيب: فما بين المغيب والغيب مفاوز تطوى وقل من يدركها.
أعلم الآن: ما أن ينبض الموتُ بالحياة لا يمكن أن يُرثى، بل به يحتفى: بأزهار وأنهار وأنوار، بسجع الكلمات وباخضرار الأرض وربيعها، وبنور لا ينقطع يراه من بصره حديد. 
تتراقص أمامي الكلمات مقهقهة وكأن الأرض على موعد مع الحصاد: لا ينفرط عقد كتاب إلا لينتظم في آخر، وكيف لا، فإن من نظم كل بديع في الكون لن يدع كلمة تسقط إلا بكتاب، لن يدع لفظا جميلا "كاستقم" حتى تستقيم طرائق الأرض لطريق السماء.
أرى ساعدا قد رفعته أكفٌ نحو أعلى، قوة تريد العهد وتخاف الوعد ولكنه عهد بالدعاء: ضع السيف موضعه وبيد أهله، فيكون قلماً يقرأ ما سُمع في الزمن الأول ليصلح به آخره. وما للزمن أولٌ وآخر، لكنها مواقيت يُؤرخ بها فقد العلماء.
إليك شيخي ولكل شيخ أنت هو وهو أنت، صوت فيصل بعد صمت أخرس مني الصوت، ما جاشت به النفس وهو غاية الأمر وبعده صمت تدب به الحياة، أرى الطعنات التئمت جراحها أملا بأنك في غد لا بأمس وإنّا في غد، وسأغلق الباب على الباب: إنّا لله وإنّا على الطريق حتى يوم الحساب. انتهى.

شفيق شقير

الأربعاء، 13 أبريل 2011

الفاعلون غير الرسميين في اليمن، أسباب التشكل وسبل المعالجة


يكمن مفتاح الفهم للفاعلين غير الرسميين في عملية إعادة إنتاج القوى اللاعبة ضمن عملية صراع لا تحتكم للدستور والأطر القانونية في مؤسسات الدولة، بل من خلال محددات القوة والعلاقات خارج بنية الدولة ومؤسساتها.

ويتجلى ذلك يمنيا وبتفاوت في القبيلة والحركة الحوثية والحراك الجنوبي والقاعدة، وقد تطورت أدوار هذه القوى حتى أصبحت إما تنافس الدولة في بعض الوظائف المنوطة بها أو تتجاوزها، أو أنها اضطلعت بأدوار يجب أن تكون حكرا على الدولة دون سواها، وتمتاز بالقوة والقدرة على عرقلة النظام وعمله أو المشاركة معه في تقاسم السلطة أو التسبب بتآكلها أو بانقسام البلد نفسه.

هذه الجماعات الأربع المذكورة آنفا هي المقصودة حصرا في هذا التقرير المعمق (المشار إلى رابطه الإلكتروني أدناه) عند إطلاق وصف "الفاعلين غير الرسميين" في اليمن، وذلك بغض النظر عن أي نقاش قد يثور حول أبعاد ودلالات هذا المصطلح وحقيقة استعمالاته في سياقات أخرى.

القبيلة
الحركة الحوثية
الحراك الجنوبي
القاعدة
استنتاجات وخلاصات


القبيلة
تعد قبيلتا حاشد وبكيل أبرز القبائل اليمنية التي استطاعت الاحتفاظ بقوة سياسية كبيرة وبأدوار سياسية هامة، تلعبها من خلال البنى الرسمية حينا، ومن خلال البنى غير الرسمية أحيانا أخرى. ويتركز وجود هاتين القبيلتين في المنطقة الممتدة من شمال مدينة صنعاء إلى الحدود الجنوبية للمملكة العربية السعودية.

وتمارس القبائل في اليمن ما يشبه السيادة على أراضيها، ويتعامل النظام مع القبائل كما لو كانت تمثل دويلات مستقلة أو كما لو كانت وحدات مرتبطة بنظام فدرالي بل هي في بعض الأحيان شريك له في إدارة العملية السياسية في الدولة. وتمتلك القبائل أعدادا كبيرة من الأسلحة الخفيفة تقارب خمسة أضعاف مخزون الدولة كما تقول بعض المصادر، إضافة إلى عدد من المدافع والرشاشات الثقيلة والمتوسطة والصواريخ.

وتمتاز القبيلة بأنها توفر الحماية لأبنائها بغض النظر عن انتماءاتهم الأيديولوجية، وتتسم مطالبها بكونها مطالب فردية في الغالب، وأحيانا قد تكون جمعية تتعلق بعائلة أو عشيرة أو قبيلة، ويميلون إلى التعبير عنها بالتعامل الكيدي مع الدولة، أو باستخدام وسائل عنيفة. وتمتاز البنى التحتية للقبيلة بالتداخل أو التماس مع بعض الفاعلين غير الرسميين الآخرين، فتأثرت بهم وأثرت فيهم.

الحركة الحوثية
لم تتأسس الحركة الحوثية في أول أمرها حركة سياسية منظمة لها أهداف ونظم ولوائح كسواها من الحركات السياسية, إنما بدأ إطارها الفكري يتشكل من خلال منشورات وتسجيلات لمؤسسها حسين الحوثي الذي تدور حول مجموعة من الأفكار الإسلامية تستهدف التجديد الديني في إطار المذهب الزيدي.
لكنها في وجهها السياسي أصبحت الحوثية مزاحمة لحكم الرئيس علي عبد الله صالح بعد أن قابلت ما أشيع عن نية الرئيس اليمني نقل الحكم لابنه أحمد، بطرح فكرة الإمامة في الحكم وفق الرؤية الزيدية التقليدية التي تحصر الإمامة بأولاد الحسن والحسين من أولاد علي بن أبي طالب رضي الله عنهم. وذلك تحت مبدأ أنها ما دامت وراثة فلتكن وراثة وفق الدين.

ودخلت الحركة الحوثية والسلطة في حروب متتالية عززت نتيجتها حضور الحوثيين في صعدة وفي بعض المناطق الشمالية المجاورة لها، وامتدت لتصبح حربا إقليمية بين الحوثيين والمملكة العربية السعودية ذهبت بعض التفسيرات إلى وصفها بأنها حرب سعودية مع إيران أو حرب من إيران على السعودية بالوكالة.

ولكن مما اتضح حتى اللحظة فضلا عن موقفها من حكم علي عبدالله صالح، أن أهم طموحات الحركة هي لعب دور ديني وفكري رائد في المنطقة انطلاقا من جذورها الزيدية، مدفوعة بمخاوف على معتقداتها من الطمس أو التشويه، متلمسة السبل لإعادة تقديم نفسها بصورة مختلفة عن تلك التي شاعت عنهم في المرحلة السابقة.

الحراك الجنوبي
يرى الحراك الجنوبي أن حرب 1994 التي انتهت بانتصار الشمال على الجنوب ألغت الوحدة التوافقية اليمنية بالوسائل العسكرية، وأن التشريع في ظل اليمن الموحد استخدم أداة انقلابية لإلغاء الأسس القانونية لدولة الوحدة وللاستيلاء على ثروات الجنوب وإلغاء مقومات دولته.

وبدأت الحركات الجنوبية التي تستظل بمظلة الحراك الجنوبي كيانات حقوقية مطلبية، لكنها تحولت إلى سياسية بسبب عدم تجاوب السلطة مع مطالبها، وذهب بعضها إلى المطالبة بإنهاء ما تسميه "احتلال الجنوب" وفك الارتباط مع دولة الشمال، باعتبار أن الوحدة كانت بين دولتين مستقلتين لم يكونا دولة واحدة البتة.

ورغم أن الحراك يصر على اعتماده الوسائل السلمية للمطالبة بالحقوق وبالتحرر، فإن هناك مواجهات حصلت بين الجيش ومسلحين جنوبيين تنسبهم السلطة للحراك، كما سجلت عدة حالات استعمل فيها الجيش الأسلحة الثقيلة ضد مدن جنوبية فضلا عن استعمال الذخيرة الحية في مواجهة فعاليات الحراك وناشطيه.

ويشهد جنوب اليمن عموما تناميا لقدرة الحراك واتساعا في قاعدته الشعبية في مقابل تآكل سلطات الدولة ووظائفها وانفلات سيطرتها على أجزاء من محافظات الجنوب التي هي وفق أجندة الحراك ستكون مناطق محررة.

ولكن من الملاحظ أن بعض القوى الجنوبية المنضوية تحت مظلة الحراك الجنوبي قد أعلنت تأييدها للثورة الشعبية اليمنية التي تطرح مطالب الشعب اليمني بأكمله، بمدنييه وقبلييه وعسكرييه، وبشمالييه وجنوبييه، ووفق رؤية واحدة تنطلق من وحدة اليمن وتستظل بعلمه الموحد.

القاعدة
مرت القاعدة في اليمن بعدة محطات لتثبت أقدامها في اليمن، أبرزها تلك التي كانت عام 2009 حيث أعلن عن اندماج خلايا القاعدة في كل من اليمن والسعودية في كيان إقليمي واحد أطلق عليه اسم "تنظيم قاعدة الجهاد في جزيرة العرب". وبهذا الإعلان اتخذت اليمن موقعها الجديد لدى التنظيم بوصفها "حاضنة مثالية" للعمل الحركي والتعبوي للقاعدة بما يشبه في بعض وجوهه دور القاعدة في أفغانستان بوصفها "الحاضنة الأم".
وعزز استقرار التنظيم واكتمال بنيته في اليمن من طموحاته للانخراط في السياسة المحلية، مع ما يتبع ذلك من إمكانية تشكيله تهديدا فعليا ومباشرا للدولة اليمنية وفرض نفسه فاعلا ذا شأن أو رقما هاما في المعادلة الداخلية، بعد أن ظل ذلك أمرا ممتنعا إلى حد كبير في المرحلة التي سبقت عملية الاندماج.

وحاولت القاعدة تقديم رواية متماسكة للتظلمات المجتمعية تتوافق والمبادئ الأساسية لأيديولوجية التنظيم، فعلى سبيل المثال لا الحصر، ثمة تشديد في مختلف أدبيات التنظيم وأطره المرجعية والإعلامية وخطابات قادته على أن الدولة اليمنية بعيدة كل البعد عن تطبيق الشريعة الإسلامية، وأن القائمين على النظام الحاكم "مرتدون" و"عملاء لأميركا ولحكام السعودية". وتتهم القاعدة البطانة التي تحيط بالرئيس بأنها تحتكر وتمتص خيرات البلاد، مؤكدة أن تلك البطانة مسؤولة عن الفساد الذي يجتاح البلاد وكذلك استنزاف ثروتها النفطية.

كما تشير القاعدة إلى الفقر المنتشر بين اليمنيين، وتبدي تذمرها من ارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية. ومن ثم تحاول استثارة سخط الشعب اليمني بشرائحه كافة على الدولة، بتشديدها على أنهم "أصبحوا مظلومين ومغلوبين على أمرهم في ظل هذا النظام الذي تحكمه مجموعة لا يهمها مصلحة البلاد وإنما البقاء في السلطة"، وتحثّهم على الانضمام إليها وتبني قضيتها بمناشدتهم مباشرة.

استنتاجات وخلاصات
يشهد اليمن حتى اللحظة بأحزابه ومعظم شرائحه وفئاته حراكا شعبيا جامعا، كان من نتائجه تقلص الحواجز الاجتماعية وتراجع المطالب الخاصة لتتقدم بدلا من ذلك المطالب الموحدة التي رفعت في الساحات تحت عنوان "ثورة شعبية" لا زالت مستمرة إلى اللحظة. وبغض النظر عن النتيجة التي ستنتهي إليها الثورة فإن ما بعدها لن يكون مثل ما قبلها من حيث المبدأ، ولكن حتما يتوقف المشهد المستقبلي للبلد وإلى حد بعيد على السلوك الذي سيتبعه الفاعلون غير الرسميين في المرحلة الجديدة، خاصة أن جل برامجهم وتجاربهم وتوجهاتهم تنتمي إلى المرحلة السابقة على الثورة.

وهذه الأخيرة عالج التقرير المعمق غالبها، ويمكن الخروج منها بخلاصات واستنتاجات أساسية من المرشح أن يكون بعضها محل اختبار في المرحلة المقبلة التي لا تزال في طور التشكل، من أبرزها:

1- يظهر الفاعلون غير الرسميين في المشهد السياسي ويتعزز حضورهم كلما ضعفت الدولة عن فرض وجودها الرمزي والمادي في آن واحد، وكلما اقتربت من نموذج "الدولة الفاشلة" حيث تكون الدولة ضعيفة وهشة وغير قادرة على السيطرة على كامل أراضيها أو الدفاع عن تمام سيادتها، وهذا ما ينطبق على اليمن إلى حد بعيد.

2- ساهم الاقتصاد الريعي والفساد المستشري في الطبقة الحاكمة وأجهزة الاقتصاد اليمني، في إنتاج شرائح اجتماعية غاضبة تحمل السلاح في وجه الدولة، وهو ما عزز من فرص ولادة قوى فاعلة غير رسمية، وأي تغيير في اليمن لا يلحظ تغيير البنية الاقتصادية للدولة من "اقتصاد الريع" إلى اقتصاد "الإنتاج" فإنه سيكرر أخطاء المرحلة السابقة.

3- تتشارك معظم القوى الفاعلة غير الرسمية في اليمن بقدرتها على تهديد أمن الدولة ونظامها السياسي، وبالقدرة على السيطرة على الأرض وحتى إدارة الحياة العامة أحيانا كما هو الحال مع القبيلة في بعض المناطق الشمالية، والحراك الجنوبي أحيانا في بعض المناطق الجنوبية، والحركة الحوثية في صعدة.

4- يتميز أكثر الفاعلين غير الرسميين في اليمن بدعم شعبي فائق، ويقومون في المقابل برعاية جمهورهم وتأمين مصالحهم المحلية وحتى الإقليمية أحيانا, مستعينين بقدرتهم على السيطرة على الأرض أو على التحكم بأجهزة الدولة التي تدخل تحت نطاق نفوذهم.

5- يتمتع جميع الفاعلين غير الرسميين في اليمن (أو يتهمون) بإقامة علاقات أو عقد تحالفات إقليمية قد تتجاوز أحيانا الحدود الوطنية للدولة كعلاقة بعض القبائل اليمنية مع السعودية، وعلاقة الحركة الحوثية مع إيران، وكنسج بعض رموز الحراك الجنوبي لعلاقات إقليمية ودولية من منطلق استمرار الدولة في جنوب اليمن، إضافة إلى طبيعة جماعة القاعدة العابرة للحدود وعدم اعترافها بوجود الدولة أصلا.

6- تعد القبيلة الفاعل الأبرز لما تملكه من جذور تاريخية وقيم اجتماعية يهرع إليها المجتمع عند غياب السلطة وعند الملمات الكبرى، وعظم دور القبيلة سياسيا بسبب شراكتها الطويلة مع النظام بدءا من مرحلة تأسيس اليمن الموحد وانتهاء بإدارة النظام القائم وتقاسم المنافع معه.

7-  إن علاقة القبيلة مع النظام لم تكن علاقة ولاء تام بقدر ما كانت علاقة مصالح لم تخل من بعض التناقضات في بعض المراحل، ما يعني أن الانفكاك بينهما أمر ممكن وهو ما يحصل مؤخرا. وبالمقابل فقد اعتادت القبيلة أن تكون الشريك غير الرسمي للحكم وتأقلمت مع هذا الدور، ما يعني أن إعادة تحالف القبيلة مع النظام السياسي أمر ممكن نظريا، لكنه من المستحيل أن يكون على نفس الأسس السابقة.

8- لم تستطع الحركة الحوثية أن تفرض نفسها حركة إسلامية أو إصلاحية أو وطنية في المشهد اليمني، رغم وجاهة بعض المطالب الحقوقية التي تطرحها، وغلب التصنيف المذهبي الانفصالي لمجمل نشاطاتها بسبب الحروب الداخلية التي خاضتها، وبسبب الشعارات التي تطرحها وتلبي أحيانا كثيرة طموحات جهات إقليمية أكثر مما تستجيب أو تنسجم مع مطالب وطموحات اليمنيين.

9- أعطت الأبعاد المطلبية المقرونة بالشعور بالخوف من اندثار المذهب الزيدي للحركة الحوثية انتشارا جغرافيا واسعا على أساس مذهبي، لكن في المقابل حكم عليها بالجمود سياسيا، وربما على مستويات أخرى، وهو ما يفسر وقوعها أسيرة حروب متوالية، وأسيرة الدفاع عن أيديولوجيتها وتحسين صورتها في منطقة تعج بالمتغيرات والحراك.

10- أذكت السلطة اليمنية مطالب الحراك الجنوبي "بالانفصال" أو فك الارتباط، كما يصفه الحراك، نتيجة سوء إدارتها للجنوب وعدم تلبية مطالبه الحقوقية الملحة. وإذا استمرت المعادلة القائمة حاليا في إدارة الأزمة الجنوبية، فإن مقولات التميز التاريخي والقيمي والاجتماعي بين الجنوب والشمال ستتعزز، وإن مطلب "فك الارتباط" سيزداد على حساب المطالب الحقوقية التي يسهل التعامل معها.

11- لم يحسم الحراك الجنوبي أمره بشكل نهائي حتى الساعة، في ما إذا كان حركة مطلبية أم حركة تحرر من احتلال على ما يقول قادته، وهو ما كشفت عنه مواقف بعض الأطراف في الحراك بتأييدها للثورة الشعبية. وليس من المتوقع أن يحسم أمره بسهولة إلا إذا حصل تغيير جذري لصالح الثورة الشعبية، فعندها قد تحسم الغالبية في الحراك أمرها باتجاه الوحدة مع استمرار كيانات أخرى متمسكة بصيغة التحرر من "الاحتلال".

12- إن قوة انتشار القاعدة في اليمن وازدياد فاعليتها ليس متعلقا في معظمه بقوتها الأيديولوجية كما هو شأنها في أماكن أخرى، إنما يتأتى ذلك من قدرتها على الاستفادة من الواقع القبلي والمذهبي المتفلت من سلطة الدولة، إضافة إلى وجود مبررات جهوية ومطلبية كثيرة تساعد على ذلك.

13- أدخلت السلطة تنظيم القاعدة في الصراع اليمني طرفا داخليا بمحاولتها عقد تحالفات دولية أو استجلاب مساعدات متعددة الوجوه تحت عنوان مواجهة خطر القاعدة، ويقول البعض إن السلطة تعمدت ذلك لتؤكد تعاطف أو تحالف بعض الأطراف المحلية مع القاعدة، وهو ما يبرر استعمال السلطة العنف المفرط في مواجهة المعارضة اليمنية المحلية.

14- تتوالد الجماعات الفاعلة غير الرسمية عادة في الدول الفاشلة أو تلك التي تتجه نحو الفشل، مما يجعل استمرار هذه الجماعات كقوى فاعلة غير رسمية أو الحد من توالدها مرهونا بإعادة بناء الدولة اليمنية. وفي هذه الحالة فإن هذه القوى قد تستمر وتزدهر كأي جماعة "رسمية" تمارس دورها تحت مظلة الدولة، مع استثناء فيما يتعلق بالقاعدة.

15- أخيرا، بوجود الدولة القوية سيفقد على الأرجح تنظيم القاعدة في اليمن شروط استمراره  "فاعلا غير رسمي"، لكن من المحتمل أن يستمر وجوده التقليدي لأسباب لا تتصل بفشل الدولة، وذلك "كجماعة عنف" مناوئة للدولة اليمنية غير المشروعة دينيا برأيه، كما هو حال بقية فروعه في الدول الأخرى المستقرة.

- نسخة من الملخص التنفيذي بصيغة PDF.
- لقراء التقرير المعمق كاملا إضغط هنا.______________________
تحرير شفيق شقير. ساهم في إعداد التقرير المعمق: فؤاد الصلاحي، عبد الله الفقيه، عادل الشرجبي، عبد الكريم الخيواني، محمد أبو بكر السقاف
 

السبت، 2 أبريل 2011

منهج حركة الإخوان المسلمين ورؤاها الفكرية

  
تصميم الجزيرة نت
 

*شفيق شقير

تعتبر حركة الإخوان المسلمين من أوضح الحركات الإسلامية منهجاً وفكراً، وأكثرها اعتدالاً ويسراً. ولكن برغم ذلك فإن منهجها لم ينج من اختلاف الباحثين بشأنه, ولم يسلم تاريخها من التباسات جعلت البعض يصفها بالتطرف، متهماً إياها بأنها تستبطن غير ما تعلن.

ولو تصفحنا عددا من كتب ومراجع الإخوان فإننا سنجد خطين متوازيين في الفكر الإخواني بقيا يمارسان تأثيراً على فكر حركة الإخوان عالمياً، الأول رسائل حسن البنا، والثاني فكر سيد قطب.

رسائل حسن البناتعتبر رسائل الشيخ حسن البنا -والذي يسمى بأدبيات الإخوان بالإمام الشهيد، ويوصف بالمجدد- أهم مفردات منهج الإخوان المسلمين وعمدة نظامهم الأساسي، وما تزال فعالة في نهج الحركة وفكرها.

وتربو على عشرين رسالة، تناولت مواضيع مختلفة في أوقات ومناسبات مختلفة، وتشتمل على آراء ومواقف دينية، وسياسية، واقتصادية، وتنظيمية وغيرها. كما إن إحداها تضمنت عشرين أصلاً احتفى الإخوان بها احتفاء خاصاً من حيث شرحها وتعليمها والالتزام بها.

صور من رسائل البنا
أهم ما في رسائل البنا هو إعطاء دعوته صفة الشمولية تبعاً لطبيعة الدين الذي تنتمي إليه، فالإسلام دين ودولة، وسيف وقرآن. والوطنية حدودها أرض الإسلام والقومية تحدها تعاليم الإسلام.

فالبنا يقول في رسالة المؤتمر الخامس للإخوان: "نحن نعتقد أن أحكام الإسلام وتعاليمه شاملة تنتظم شؤون الناس في الدنيا والآخرة... فالإسلام عقيدة وعبادة, ووطن وجنسية, ودين ودولة, وروحانية وعمل, ومصحف وسيف".

وبناء على شمولية الإسلام يقرر البنا أن دعوة الإخوان المسلمين:

1- دعوة سلفية: لأنهم يدعون إلى العودة بالإسلام إلى معينه الصافي من كتاب الله وسنة رسوله.

2- وطريقة سنية: لأنهم يحملون أنفسهم على العمل بالسنة المطهرة في كل شيء، وبخاصة في العقائد والعبادات ما وجدوا إلى ذلك سبيلا.

3- وحقيقة صوفية: لأنهم يعلمون أن أساس الخير طهارة النفس، ونقاء القلب، والمواظبة على العمل، والإعراض عن الخلق، والحب في الله، والارتباط على الخير.
4- وهيئة سياسية: لأنهم يطالبون بإصلاح الحكم في الداخل وتعديل النظر في صلة الأمة الإسلامية بغيرها من الأمم في الخارج، وتربية الشعب على العزة والكرامة والحرص على قوميته إلى أبعد حد.
5- وجماعة رياضية: لأنهم يعنون بجسومهم، ويعلمون أن المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف.
6- ورابطة علمية ثقافية: لأن الإسلام يجعل طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة.
7- وشركة اقتصادية: لأن الإسلام يعنى بتدبير المال وكسبه من وجهه.
8- وفكرة اجتماعية: لأنهم يعنون بأدواء المجتمع الإسلامي ويحاولون الوصول إلى طرق علاجها وشفاء الأمة منها.

فدعوة حسن البنا برغم طابعها الإصلاحي ومضمونها التبشيري مثقلة بهم استعادة الحكم الإسلامي، ويقول البنا في هذا إن الإخوان "لا يطلبون الحكم لأنفسهم فإن وجدوا من الأمة من يستعد لحمل العبء وأداء هذه الأمانة والحكم بمنهاج إسلامي قرآني فهم جنوده وأنصاره وأعوانه، وإن لم يجدوا فالحكم من منهاجهم وسيعملون لاستخلاصه من أيدي كل حكومة لا تنفذ أوامر الله".

وابتداء من نقطة الحكم تخوض حركة الإخوان صراعها السياسي مع الأنظمة القائمة، وتوسلت لتحقيق ذلك إضافة لأهدافها الأخرى، شكلاً تنظيمياً خاصاً، اختارت له الصيغة الدولية (أي تنظيم يمتد في أكثر من دولة في العالم) وعملت بفاعلية على مستوى العالم العربي في بعض المراحل السياسية وتركت أثرا واضحاً في بعض دول العالم الإسلامي، مما جعلها موضع خصومة أكثر من نظام عربي وإسلامي، وموضع اتهام وإساءة، وتعرضت للمنع والحظر وبخاصة التنظيم المركزي في مصر، وتعرض عناصرها أكثر من مرة للملاحقة والسجن والإعدام أحياناً.

الأصول العشرونفي رسالة التعاليم يتحدث حسن البنا عن أركان بيعة الأخوان ويحصرها في عشرة أركان، أهمها "الفهم" أي فهم الإسلام ويقول موجهاً قوله للفرد الإخواني بأنه يريد من الفهم أن يفهم الإسلام في حدود الأصول العشرين، ثم يوجزها.

وأولى الإخوان هذه الأصول عناية خاصة، وجعلوها دستور دعوتهم، وشرحها الكثيرون من قادتهم التربويين ومشايخهم الفاعلين، وأبرز شرح كان للشيخ محمد الغزالي في كتابه "دستور الوحدة الثقافية".

وتؤكد الأصول في مطلعها على شمولية الإسلام لمظاهر الحياة وللدين والدنيا وللحكم والعقيدة، وتقرر مرجعية القرآن الكريم وفهمه وفق قواعد اللغة العربية، ومرجعية السنة وأنه يرجع في فهم السنة إلى رجال الحديث الثقات، بما يؤكد انتماء الإخوان للمذهب السني.

وتتناول الأصول بعض القواعد لضبط التفكير والممارسة الدينية في محاولة للتوازن ما بين التصوف وبين النزعات السلفية، فنجدها تخوض في مسألة الرؤى (الأحلام) وأنها ليست من أدلة الأحكام الشرعية، وكذلك تذهب إلى أن التمائم والرقى والودع والرمل والمعرفة والكهانة وادعاء معرفة الغيب, وكل ما ليس عليه دليل من آية أو حديث أو رقية مأثورة تجب محاربته.

وتعطي الأصول لرأي الإمام ونائبه فيما لا نص فيه سلطة اختيار وإقرار الأحكام وفق الظروف والعرف والعادات فيما لا نص فيه وتذهب إلى أن كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم.

وأن لكل مسلم أن يتبع إماما من أئمة الدين، ويحسن به مع هذا الإتباع أن يجتهد ما استطاع في تعرف أدلته، وأن الخلاف الفقهي في الفروع لا يكون سببا للتفرق في الدين, ولا يؤدي إلى خصومة ولا بغضاء ولكل مجتهد أجره، وكل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها من التكلف الذي نهينا عنه شرعا.

وتتناول أيضاً بعض مسائل الاعتقاد، مثل الإيمان بالآيات المتشابهة من غير تعطيل ولا تأويل وموقفهم المناهض للبدع في الدين، وغير ذلك مما يتفق مع النهج السلفي بالإجمال وقد يختلف مع بعض التيارات السلفية في التفاصيل.

وأبرز ما في الأصول هو الموقف من مسألة التكفير حيث يقول الأصل ما قبل الأخير: "ولا نكفر مسلما أقر بالشهادتين وعمل بمقتضاهما وأدى الفرائض -برأي أو بمعصية- إلا إن أقر بكلمة الكفر, أو أنكر معلوما من الدين بالضرورة, أو كذب صريح القرآن, أو فسره على وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال, أو عمل عملا لا يحتمل تأويلا غير الكفر".
فكر سيد قطب
يقول محمد قطب أخو سيد: "فكر سيد قطب هو الامتداد الحقيقي لفكر حسن البنا, فحسن البنا في رسالة التعاليم يقول: "ولا نكفر مسلمًا بذنب متى نطق بالشهادتين وعمل بمقتضاها"، وسيد قطب يتحدث عن قيد أو شرط "وعمل بمقتضاها". فبرأي محمد قطب أن فكر سيد يدور حول العمل بمقتضى الشهادتين، وليس مجرد ترديدهما فقط.
ومن المؤكد أن منطلقات سيد في التعبير عن قضيته تتلاقى مع فكر حسن البنا، لأن موضوع فكره بالأساس يدور حول وجوب تحكيم شرع الله، وهو ما عبر عنه حسن البنا في المؤتمر الخامس للإخوان بقوله: "فإن قعود المصلحين الإسلاميين عن المطالبة بالحكم جريمة إسلامية لا يكفرها إلا النهوض واستخلاص قوة التنفيذ من أيدي الذين لا يدينون بأحكام الإسلام الحنيف. هذا كلام واضح لم نأت به من عند أنفسنا, ولكننا نقرر به أحكام الإسلام الحنيف". وبنفس الروح كانت جماعة الإخوان عام 1948 اعلنت معركة المصحف حتى تحدد الدولة موقفها من القرآن باعتباره المصدر للتشريع والحكم، وكتب البنا أربعة مقالات في صحيفة الإخوان اليومية، أنهى مقالته الأخيرة بقوله: "ليس بعد النصيحة أو البيان إلا المفاصلة أو الجهاد".

ووجه الاختلاف أن حسن البنا كرس نفسه للتنظيم وللإصلاح وأعطاهما الأولوية، أما سيد قطب فقد أعطى الفكر والاعتقاد السياسي الأولوية، فكرس نفسه للتمييز بين الكفر والإيمان في علاقة الحكم والحاكم بالمحكومين، علاقة النظام الكافر، والمجتمع المحكوم الراضي بهذا الحكم والآثار المترتبة على ذلك.

فسيد قطب قسم المجتمعات تقسيماً ثنائياً، مجتمع إسلامي وآخر جاهلي، يقول المفكر الإسلامي الدكتور محمد سليم العوا: "والإسلام -عند سيد قطب- لا يعرف إلا نوعين اثنين من المجتمعات، مجتمع إسلامي ومجتمع جاهلي. المجتمع الإسلامي: هو الذي يطبَّق فيه الإسلام عقيدة وعبادة، شريعة ونظامًا، وخلقًا وسلوكًا. والمجتمع الجاهلي: هو المجتمع الذي لا يطبق فيه الإسلام، ولا تحكمه تصوراته وقيمه وموازينه، ونظامه وشرائعه، وخلقه وسلوكه. ليس المجتمع الإسلامي هو الذي يضم ناسًا ممن يسمون أنفسهم "مسلمين"، بينما شريعة الإسلام ليست هي قانون هذا المجتمع، وإن صلى وصام وحج البيت الحرام… وقد يكون المجتمع -إذا لم يطبق الشريعة- مجتمعًا جاهليًا ولو أقر بوجود الله -سبحانه-، ولو ترك الناس يقيمون الشعائر لله في الِبَيعِ والكنائس والمساجد". ويضيف قائلاً "هاتان الفكرتان: (الجاهلية) التي أصابت المجتمعات الإسلامية -بل البشرية كافة- والتحرر منها والانعتاق من أسرها بتطبيق (الحاكمية)، هما الفكرتان الرئيستان في منهج سيد قطب الفكري، وهما الإضافة التي زوّد بها سيد قطب نهر الفكر السياسي الإسلامي. وحول هاتين الفكرتين تدور كل الأفكار الأخرى التي تصادفنا في كتب سيد قطب، وفي مقالاته، بل وفي تفسيره للقرآن الكريم "في ظلال القرآن"، كلما تعلَّق الأمر بالفكر السياسي أو بالحياة الاجتماعية".

وتبنت هذا الفكر مع تداعياته ومآلاته جماعات إسلامية، فكفرت المجتمع المسلم في الدول الخاضعة لغير حكم الله ولم يحرك ساكناً، واتهمته بأنه مجتمع جاهلي، بينما اكتفى قسم بتكفير النظام وأجهزته وأجازوا إباحة دماء من ينتمي لهذا النظام، وترتب على ذلك موجات عنف أصابت بعض الدول العربية ولا سيما مصر.

ولهذا الأمر قام حسن الهضيبي المرشد الثاني بعد حسن البنا -أثناء فترة سجنه عام 1969- بإجراء مراجعة لفكر الإخوان الذي ظهر خلال فترة الصدام مع النظام الناصري وعلى وجه التحديد ما ارتبط منه باجتهادات سيد قطب، فأكد في المراجعة على فكر الجماعة كما استقر به الأمر إبان حياة المؤسس حسن البنا، ووفقاً للأصول العشرين، وهو عدم تكفير أي من المسلمين، وأن واجب الدعاة هو الدعوة إلى الله فقط أما الحكم بالكفر من غيره فليس إليهم، وذلك في كتاب (دعاة لا قضاة)، والمشهور أن الكتاب أعده الهضيبي بنفسه فيما ينسبه بعض قياديي الإخوان إلى لجنة أعدت لهذا الغرض.

ولم يتردد الإخوان في تخطئة سيد قطب في بعض اجتهاداته، فأرجع البعض سبب ذلك إلى ظروف السجن وهول التعذيب الذي تعرض له، وأنه كسائر البشر يصيب ويخطئ وأخطأ في بعض اجتهاداته، والبعض الآخر قال إنه أسيء فهم الرجل بسبب بعض العبارات التي توهم غير ما يعتقده حقيقة.

ويظهر الإخوان حرصاً على الاستفادة من مؤلفات سيد قطب ولكنهم يشددون على التزامهم بالمنهج الذي أرساه البنا في تقديم الإصلاح والنصح للأمة، وهو ما استقر في كتابات بعض شيوخهم المعاصرين من أمثال الشيخ يوسف القرضاوي والشيخ فيصل مولوي.
ــــــــــــــــ
* قسم البحوث والدراسات-الجزيرة نت

- المصادر:
1- الفكر الإسلامي في الفكر السياسي المصري، محمد العوا.
2- الفكر السياسي للإمام حسن البنا، إبراهيم بيومي غانم.

الثلاثاء، 1 فبراير 2011

ملاحظات وتداعيات على الثورة الاحتجاجيّة في مصر .

الجمعة, 18 فبراير 2011
مجلة الامان - شفيق شقير


افتتح عام 2011 بثورتين احتجاجيّتين في تونس ومصر، لتعطيا إشارة واضحة أن النظام العربي القديم في انهيار، وأن بعض ملامح النظام الجديد آخذة في التكون. وهذه الدلالة، قد تفسر أهمية الممانعة الشديدة التي أظهرها النظام المصري في مواجهة التيار الاحتجاجي الجارف، وتفسر معنى الدعم العربي المعلن أو غير المعلن الذي حظي به مبارك، في فارقة أساسية تمثل محاولة من النظام العربي لاستدراك ما عجز عنه في الحالة التونسية، على أمل الحؤول دون استمرار انهيار للنظام الرسمي العربي .
وعلى وقع الحدثين التونسي والمصري، وعلى وجه الخصوص الأخير منهما، يمكن الوقوف عند بعض الملاحظات التي انتهت إليها الثورة بنسختها المصرية حتى الآن، إضافة إلى رصد بعض التداعيات المتوقع أن نلحظها بعد هاتين الثورتين، وخاصة إذا اكتملت النسخة المصرية من النموذج التغييري العربي.

ملاحظات أساسية
1- كانت مظاهرات التأييد التي وقعت في مصر للتعاطف مع الثورة التونسية، بمثابة الشرارة التي نقلت نار الثورة من تونس إلى القاهرة.

2- لجأ النظام المصري قبل سقوطه إلى الاستفادة من تكتيكات رئيس الوزراء التونسي محمد الغنوشي ليطيل من أمد حكم مبارك على رأس مرحلة انتقالية، تمثلت بتلبية بعض المطالب مع وعود بتلبية أخرى في خطابه الثاني، على أمل إحداث الفرقة في صفوف المحتجين.

3- أضافت الحالة الرسمية المصرية أدوات جديدة لمحاربة التغيير، حيث بدت الحكومة الجديدة «حكومة حرب» وهجوم على المحتجين، وأدخلت تكتيكات جديدة على مستوى مواجهة الشارع، من خلال «مظاهرات أمنية» مضادة لم نجدها في الحالة التونسية.
4- إن نجاح قدرة المحتجين على حشد تجمعات مليونية كان أمراً حاسماً في إسقاط النظام، وإن محاولة إطالة عمر النظام بتجاهل ما يحدث على الأرض زادت من الضغط الدولي وخاصة الأميركي على النظام المصري، خوفاً من أن يتحول الغضب الشعبي بعد سقوط النظام إلى غضب على الخارج المتواطئ لإطالة عمر حكم الدكتاتور.
تداعيات ثورة الشارع

1- يؤكد الاستدراك الذي حصل في النموذج المصري، أنه ليس من المستبعد أن تلجأ بعض الأنظمة العربية للشارع وتعبئته لصالحها في إجراء وقائي، أو أن تعقد تحالفات مع بعض طبقاته لتحول دون انتظامه تحت مطالب موحدة. مع العلم أن معظم الأنظمة العربية في بدء مرحلة العولمة كانت قد تحالفت مع رجال الأعمال فقط دون بقية الشرائح.

2- كان شعار الانتفاضات التي قامت حتى الآن هو، رفض الدكتاتورية، والاحتجاج على الفقر وفشل التنمية، وعلى تحكم أو احتكار طبقة محدودة أو عائلية لمعظم مقدرات البلاد. وهذه الصفات تتوافر في مجموعة أخرى من الأنظمة العربية قد تكون مرشحة لاهتزازات مستقبلية، وليس بالضرورة أن تكون مشابهة لتلك التي حصلت في تونس ومصر، وذلك لاختلاف طبيعة الحكم وطبيعة المكون الاجتماعي لشعوبها، ولن يكون هناك فرق بين الدول الممانعة للغرب وإسرائيل من سواها.

3- سنشهد انخراطاً لأنظمة الحكم العربية التقليدية المأزومة من جهة والمتظلمين منها من جهة أخرى، في مقاربة الحدث التونسي والمصري، بالمقايسة والمناظرة للاستفادة منه أو ترقب عدواه. وعليه سيكون الحد من وسائل الاتصال، والإفراط في الأنفاق على مراقبة شبكات الاتصال بكل أنواعها أحد التداعيات العاجلة لهذه التطورات التي أطاحت النظامين التونسي والمصري.

4- الدور الذي أدته قناة الجزيرة في نقل تطلعات الشعوب العربية وتظلماتها، قد يضعها في المستقبل القريب تحت مجهر أكثر حرفية في كيده، وقد يصبح ترصّد أخطائها وسواها من المؤسسات الإعلامية أو النيل من مصداقيتها أو الحد من حركتها، أحد الأهداف الموضوعة على لائحة عدد من الدول العربية والقوى الدولية الحليفة لها.

5- مهما كانت نتيجة الاحتجاجات في مصر فقد استقر نمط جديد من التغيير، عمدته الشعب والشباب، ووسيلته التطور التقني الهائل في وسائل الاتصال الاجتماعي وولادة إعلام المواطنين الذي يعبر عن هموم الناس دون وساطة وسائل الإعلام ذات القوالب التقليدية.

6- ستحظى الأحزاب العربية المعارضة باحترام واعتبار لم يكن لها من قبل،لأن غياب الحياة الحزبية أو ضعف فعاليتها في المرحلة السابقة، ترك الشارع عرضة للاشتعال بما لا يمكن ضبطه بسهولة، حيث إن أهدافه تكبر ككتلة الثلج مع تزايد المحتجين، كما لا إمكانية للتفاهم معه على أنصاف حلول أو على حلول مركبة. فهذا النوع من الثورات يطالب مباشرة برحيل رأس النظام وتغيير النظام برمته، وليس بمجرد الإصلاح.

7- ستعطي هذه الثورات، سواء استمرت أو تعثرت، مكانة خاصة للشباب في المجتمع العربي، وهم لم يعطوا مكانة متقدمة في الحياة السياسية العربية، ولا في الحياة الاجتماعية.

8- إذا نجح هذا النموذج العربي في التغيير، سيعطي رسالة جديدة للجمهور العربي، أن التغيير السلمي حلم قابل للتحقق. وبالمقابل، فإن من الممكن أن نشهد تراجعاً لبريق ظاهرة «القاعدة» وأساليبها العنيفة في التغيير.

9- إن التغير الذي ستشهده مصر، سيترك أثراً واسعاً على المشهد السياسي في أكثر من منطقة، وقد يفتتح عهداً جديداً منقطعاً عما قبله من التدوين والتحليل، سواء على الصعيد المحلي أو العربي أو الإقليمي أو الدولي. وهذه النقطة هي المحور الأساسي الذي سيفرض نفسه على مراكز الدراسات وأصحاب الرأي.

10- دولياً، ستعمل الولايات المتحدة بعد الدرس التونسي والمصري، على إعداد آليات نمطية في التعامل مع مثل هذه الثورات، وقد تستفيد من أمثالها إذا ما اندلعت في بعض البلدان المسماة «بالممانعة» وعلى رأسها سوريا وإيران.

الثلاثاء، 11 يناير 2011

خيار حلّ السلطة الفلسطينية: إمكانية اعتماده وتداعياته

مركز الجزيرة للدراسات

شهدت "عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية" تراجعا كبيرا في الآونة الأخيرة، بسبب رفض إسرائيل الحد الأدنى الذي اشترطه الرئيس الفلسطيني محمود عباس المتمثل بوقف الاستيطان لاستئناف التفاوض. بل لم ترضَ إسرائيل بالتجميد المؤقت للاستيطان رغم كل الإغراءات التي قدمتها لها واشنطن.

وتجدر الإشارة إلى أن وقف الاستيطان –إضافة لوقف الاجتياحات، ورفع الحصار عن غزة- هو أحد مرتكزات برنامج الرئيس عباس وبرنامج منظمة التحرير الفلسطينية، كما أن حركة فتح في مؤتمرها السادس عام 2009 أكدت على أن "نضال حركة فتح يرتكز في الأجل المنظور على التصدي للاستيطان وإنهائه"؛ وذلك لأن العبور من السلطة إلى الدولة يفترض وجود أرض، وإلا فإن الفلسطينيين أمام سلطة لها "ولاية على السكان، دون السيادة على الأرض"، لا، بل إن الولاية آخذة في التراجع "فما بالك بالسيادة؟!" على حد وصف عضو الوفد الفلسطيني المفاوض نبيل شعث.

علما بأنه قد التقت أصوات عدة -وبعضها من منظمة التحرير وفتح نفسها- حول الرأي القائل بأن السلطة الفلسطينية قد فقدت فعلا -أو قاربت أن تفقد- دورها الأساسي في تحقيق الدولة الفلسطينية المنشودة في ظل استمرار الاستيطان وتقلص ما يمكن التفاوض عليه من الأرض والسيادة، ومن ثم فقد أضحى السؤال حول جدوى استمرار السلطة وضرورة حلها مشروعا ومطروحا في الساحة الفلسطينية عموما. وهو ما تتناوله هذه الورقة مركِّزة -وبالتحديد- على مدى واقعية خيار حل السلطة الفلسطينية والتداعيات التي قد تنتج عنه، إضافة إلى طرح بدائل أخرى يمكن اعتمادها في هذا السياق.


أزمة السلطة الفلسطينية والخيارات المتاحة

تشكَّلت السلطة الفلسطينية سنة 1994 إثر توقيع اتفاق أوسلو سنة 1993، وكانت الآمال وقتها تحدو قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وقيادة حركة فتح ومؤيدي الاتفاق لإنشاء دولة فلسطينية مستقلة في بضع سنين، بعد أن تقوم المنظمة والسلطة باستكمال مسيرة التفاوض، وبناء مؤسسات الدولة على الأرض، وتحقيق الانسحاب الإسرائيلي من الضفة الغربية وقطاع غزة.

وقد أجل اتفاق أوسلو حسم القضايا الأساسية كمستقبل اللاجئين، والقدس، والمستوطنات، والحدود، والاستقلال، ومدى سيادة الدولة الفلسطينية على أرضها. ولم يضع الاتفاق كذلك أي إطار زمني ملزم للطرف الإسرائيلي بالوصول إلى اتفاق نهائي، وبالانسحاب من الضفة والقطاع، كما لم يضع أية آلية دولية ملزمة لـ"إسرائيل" بتنفيذ الاستحقاقات. وقد استفاد الطرف الإسرائيلي من ترك أوسلو للكثير من القضايا الأساسية والخلافية معلقة، في جعل المفاوضات عملية مفتوحة ولا نهائية وفي بناء الحقائق على الأرض من خلال مشاريع التهويد والاستيطان، وعدم احترام سيادة السلطة على المناطق التي أُعطِيت لها بموجب الاتفاقات السابقة، والمشار إليها بمنطقتي ألف وباء؛ حيث تقوم إسرائيل باجتياحها أو اقتحامها متى شاءت وتعتقل من تشاء.

وفي الوقت نفسه ألزمت إسرائيل -بدعم أمريكي وغربي- الطرف الفلسطيني بتنفيذ كافة استحقاقاته وخصوصًا الأمنية، بهدف "اجتثاث المقاومة المسلحة"، واستخدمت أساليب الحصار الاقتصادي، والاجتياحات العسكرية، وتدمير البنى التحتية، ومنع انتقال الأفراد، ومصادرة الأراضي، وجدار الفصل، وغيرها كأدوات للضغط على الجانب الفلسطيني "لينفذ الالتزامات المنوطة به"، من دون أن توفي هي في المقابل بأي من التزاماتها.

الخيارات المتاحة
أعلن الرئيس الفلسطيني عباس أن لديه خيارات عدة في مواجهة المرحلة المقبلة، وقد حددها مسؤولون فلسطينيون بما يأتي:
-         الخيار الأول: استمرار المفاوضات، شرط وقفٍ تامٍ للاستيطان.

-         الخيار الثاني: مطالبة الجانب الأميركي بالاعتراف بالدولة الفلسطينية في حدود الرابع من حزيران/يونيو1967.

-         الخيار الثالث: التوجه إلى مجلس الأمن للاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة على حدود عام 1967، ومطالبة الجانب الأميركي بعدم استخدام حق النقض (الفيتو).

-         الخيار الرابع: التوجه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة ضمن البند المعروف باسم تحالف من أجل السلام، والذي تتخذ فيه قرارات الجمعية صفة إلزامية مثل قرارات مجلس الأمن.

-         الخيار الخامس: مطالبة الأمم المتحدة بوضع فلسطين تحت الوصاية الدولية.

-         الخيار السادس: وقف تطبيق الاتفاقات الموقعة مع "إسرائيل".

-         الخيار السابع: حل السلطة، ووضع إسرائيل أمام مسؤولياتها كدولة احتلال.

ووفق هذا الترتيب فإن الخيار الأول -وهو استمرار التفاوض- قد أصبح متعذرا، خاصة مع إعلان إدارة أوباما عن كفها عن السعي لدى إسرائيل لتجميد الاستيطان. وبغض النظر عن المسار الذي ستسلكه أو الخيار الذي ستبلغه السلطة في موقفها من عملية السلام؛ فإن التلويح بالخيار السابع -أي حل السلطة- رغم أنه الأخير في الترتيب، قد حظي باهتمام أكبر وعلى كل المستويات؛ لأنه يعيد عملية السلام إلى المربع الأول، وأصبح موضع تجاذب داخل السلطة ومنظمة التحرير وحركة فتح، وخاصة الأخيرة وهي التي أعلنت إنشاء السلطة وأشرفت فعليا على بنائها.

فتح وخيار حل السلطة
تواترت الأنباء الصحفية والتسريبات عن الرئيس عباس بأنه قد يلجأ لهذا الخيار، ولوح به بالفعل في مواجهة استمرار الاستيطان الإسرائيلي. وقد تولى أكثر من قيادي في فتح الترويج لهذا الخيار كأحد البدائل المطروحة كي تتحمل إسرائيل أعباء السكان الفلسطينيين بوصفها قوة احتلال، ومن هؤلاء: عضو اللجنة المركزية لفتح وكبير مفاوضي منظمة التحرير صائب عريقات، وعضو اللجنة المركزية لحركة فتح نبيل شعث، وعضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ومهندس اتفاق أوسلو أحمد قريع، وكذلك نُقل هذا الخيار عن عضوي اللجنة المركزية لفتح محمد أشتية، وجمال محيسن وسواهم.

ولكن من جهة أخرى فإن عددًا من قيادات فتح وقيادات السلطة تؤكد على استبعاد خيار حلّ السلطة، وهو خيار مرفوض بالنسبة لسلام فياض رئيس الحكومة الذي يرى في السلطة معبرًا لقيام الدولة، وهو بالنسبة لمحمد دحلان خيار يعكس مصلحة إسرائيلية، كما أن حلّ السلطة بالنسبة لجبريل الرجوب غير مقبول لأنه لا وجود لبدائل جادة عن السلطة، ولأنها جهاز خدماتي لا غنى عنه.

وفي المحصلة يمكن القول: إن الاختلاف بين الجهتين المذكورتين أعلاه حول جدوى خيار حل السلطة ليس له أية انعكاسات حقيقية على الأرض؛ حيث لم يطرح بجدية كافية داخل أطر حركة فتح وبناها التنظيمية وبما يتلاءم مع أهمية ما قد ينتج عنه، كما لا يزال الخط الرسمي السائد في الحركة يرى أن الخيارات الأخرى لم تُستنفد، ولا يمكن لأحد التكهن بمقدار المدة الزمنية التي قد يستهلكها كل خيار للوصول إلى الخيار الأخير: خيار حل السلطة. وحتى اللحظة لا يزال الهدف الواضح من طرح هذا الخيار هو التعبير عن الانزعاج الفلسطيني، أو محاولة التهديد أو الضغط السياسي على الراعي الأميركي وعلى المفاوض الإسرائيلي.

واقعية خيار حل السلطة والبديل

ولكن هذا لا يمنع أن مجرد طرح خيار حلّ السلطة بهذه الطريقة، قد حجز له مكانا بين الخيارات الأخرى لتكون جميعا موضع بحث واهتمام، ومن المؤكد أن النقاش سيتصاعد في الأيام القادمة داخل فتح مع تزايد حالة الإحباط من أداء السلطة وتراجع دورها، ومن مسار "العملية السلمية"، خاصة بين المحافظين على التقاليد الثورية في الحركة إضافة إلى النشطاء التنظيميين الذين يعملون في الميدان. 

إن حل السلطة قد يكون خيارا ممكنا إذا تمت المصالحة الكاملة بين فتح وحماس لأن كلا الطرفين يشكلان أغلبية في الشعب الفلسطيني، وإذا أجمعا على أي قرار فإن حظه من التطبيق يكون وافرا، كما أنه لا يمكن لأية سلطة أن تستمر أو أن تكون فعالة مع معارضتهما لها أو إذا أرادا حلها. ولكن في ظل حالة الانقسام بينهما فإن خيار حل السلطة يواجه تحديات وعراقيل عدة تعترض طريق اعتماده، من أبرزها:

أولا:
صدر قرار إنشاء السلطة الفلسطينية عن منظمة التحرير الفلسطينية وهي التي تشكل المرجعية الوحيدة لها، وعليه فإن أي قرار يصدر عن المنظمة بحل السلطة يعتبر شرعيا ونافذا. ولكن من الناحية الواقعية يمكن القول: إن السلطة الفلسطينية اكتسبت قوة ذاتية في تمثيلها للفلسطينيين استمدتها من الثقة والدعم المقدم لها من المجتمع الدولي عموما ومن الرباعية الدولية على وجه الخصوص، وكذلك من الاعتراف الأميركي والإسرائيلي بها، إضافة إلى اعتراف بعض المنظمات الدولية الفاعلة. وعلى هذا الأساس أصبح وجود السلطة وفق هذه المعادلة أمرا ضروريا لاستمرار "عملية السلام" وديمومتها ولو نظريا، ولتلبية بعض الحاجات الأمنية الإسرائيلية في السياق نفسه.


وأضف إلى ذلك أن السلطة أصبحت مستقلة بمصادرها المالية عن منظمة التحرير وعن حركة فتح إلى حد ما، ومرتبطة إلى حد كبير بالجهات الدولية المانحة. وهذا يعني -وفي ظل الظروف الحالية- أن المنظمة ومن ورائها حركة فتح، لا تملك من الناحية الواقعية القدرة على حل السلطة دون موافقة دولية. أما في حال تم اتخاذ هذا القرار فعلا من قبل المنظمة فإن "الشرعية الدولية" والدول الكبرى المنخرطة في أوضاع المنطقة وخصوصا الأمريكيين والأوروبيين، فضلا عن بعض الدول العربية، من الممكن أن يبادروا لإضفاء الشرعية على السلطة لتعزيز استمرارها، وحينها لن تعدم السلطة أن تجد من يقودها من أطراف فلسطينية أخرى، بل حتى من المنظمة أو من حركة فتح نفسها التي تتعدد فيها الرؤى ومراكز القوة.

ثانيا:تشكلت شبكة واسعة من المصالح والارتباطات المالية والسياسية والأمنية المعقدة بين السلطة الفلسطينية ورجالها مع سائر الأطراف الدولية والإقليمية، وإسرائيل نفسها. وعليه فإن اتخاذ قرار حل السلطة يعني في بُعد من أبعاده الأساسية تفريطا في هذه المصالح، وقطع شبكة الارتباطات المعقدة التي تم نسجها منذ أوسلو، تاريخ نشأة السلطة الفلسطينية إلى يومنا هذا. ومثل هذا القرار ليس من اليسير الإقدام عليه فلسطينيا سواء للحفاظ على مصالح شخصية من البعض، أو لمصالح ترتبط بالقضية الفلسطينية وبما "تم إنجازه في ظل التناغم" مع المجتمع الدولي بالنسبة للبعض الآخر.

ثالثا:إن حل السلطة في الضفة دون نظيرتها في غزة سيعني، بالنسبة لحركة فتح ومؤيديها، تسليم مرجعية الشعب الفلسطيني في الضفة وغزة إلى حركة حماس، وستكون –كما يرى خصوم حماس- نقلا لمركز السلطة من الضفة إلى غزة فحسب، وهو أمر لن تحتمله أو تقدم عليه المنظمة أو حركة فتح أبدا، إلا إذا تم التصالح والتفاهم مع حماس على حل السلطة بالتزامن بين الطرفين أو على أية صيغة أخرى يتم الاتفاق بشأنها.

رابعا:إن حل السلطة يتطلب إيجاد بدائل للوظائف التي كانت تقوم بها السلطة على الأقل من ناحية رعاية السكان الفلسطينيين؛ حيث وُلِد جيل كامل في ظل السلطة الفلسطينية القائمة، ويستفيد منها عشرات الألوف من الموظفين والسكان المحليين في مجالات التعليم والصحة والبنى التحتية والخدمات وغيرها، وتقوم بالإشراف على مؤسسات اجتماعية وإنمائية ومعيشية كثيرة. وهذا يعني أن حل السلطة يتطلب إعادة إيجاد هياكل لإدارة شؤون السكان في ظل الاحتلال، ويتطلب تأمين أموال بديلة عن تلك التي تؤمّنها السلطة الحالية.

خامسا:إن قرار إنشاء السلطة حظي برعاية عربية رسمية، وبالمثل فإن قرار حلها يتطلب دعما عربيا كبيرا، ماليا ومعنويا وسياسيا. والعرب لم يستطيعوا ولو حتى اتخاذ قرار بسحب المبادرة العربية أو دفع الفلسطينيين نحو وقف التفاوض، فكيف لهم أن يؤيدوا قرار حل السلطة جملة؟! بل إن تداعيات حل السلطة على العرب ستكون كبيرة؛ لأنها ستغير المعادلة الحالية التي يعتمدها النظام العربي في إدارة "الصراع العربي الإسرائيلي" بصورة إجمالية، والتي باتت تستند إلى مبادرة بيروت العربية (أرض 67 مقابل السلام الكامل) من جهة، وعلى استمرار العملية السلمية الفلسطينية الإسرائيلية رسميا، من جهة أخرى.

وحل السلطة يعني فيما يعنيه إعلان منظمة التحرير الفلسطينية رسميا انتهاء "عملية السلام"، وهذا يوجب على الطرف الفلسطيني والعربي أن يحدد موقعه في أية معادلة جديدة ستنشأ في المنطقة، والجميع يدرك أن استقرار أية معادلة جديدة يقترن بتحولات إقليمية مكلفة في العادة، لا يُعتَقَد أن النظام العربي بصورته الراهنة قادر على تحملها.

سادسا:
إن قرار حل السلطة يتطلب أيضا وجود تفهم لهذه الخطوة من بعض الأطراف الدولية النافذة، وهذه الأطراف السياسية يجتمع أكبرها في الرباعية الدولية التي لا تزال ترى في السلطة جهة صالحة ومخولة لإدارة التفاوض عن الجانب الفلسطيني، ولن يدفعها لتغيير رأيها إلا تغيير كبير يفرض حقائق جديدة على أرض الواقع.

سابعا:
ليس من المتوقع أن تبادر إسرائيل طوعا لتحمل مسؤولياتها كقوة احتلال فور حل السلطة؛ فإضافة للصعوبات الطبيعية التي سيواجهها هذا الخيار، فإن إسرائيل ستحاول أن تجعله مكلفا للفلسطينيين من خلال إذكاء الخلافات بينهم، والتدخل المباشر على الأرض بالاحتلال والاعتقال وما إلى ذلك، وهذا يتطلب الاستعداد لقرار حل السلطة بوصفه قرارا بفتح المواجهة المباشرة مع المحتل، وربما يكون إعلانا لانتفاضة أخرى.

البديل الممكنبوصول المسار التفاوضي إلى مسألة "وقف الاستيطان"، فقد لامس إحدى النقاط الحاسمة التي تنذر بصعوبة استمرار العملية السلمية وفق الشروط الحالية، وليس من المتوقع أن تتغير الشروط نحو الأحسن، بما يشي بأن العملية السلمية مرشحة لمزيد من الانتكاس وربما الانهيار. ورغم أنه لا يمكن الركون إلى تصورات محددة تنبي بما قد ينشأ عن انسداد العملية السلمية، لأنها كثيرة، لكن من الواضح أن وظيفة السلطة الفلسطينية قد تأثرت كثيرا في مسارها الطويل نحو التأقلم مع مطالب العملية السلمية، وجاء الانقسام الفلسطيني ما بين حكومتين متصارعتين ، حكومتي الضفة وغزة، ليزيد من تفاقم هذه المشكلة، وذلك في الوقت الذي تسير فيه المفاوضات نحو التأزم.

وبالعودة لقراءة ما يجب أن يكون عليه دور السلطة الفلسطينية في ضوء الظروف الحالية، فيمكن اختصاره بأهم دورين أساسيين كانا قد نِيطا بها عند إنشائها، أولهما: التفاوض مع إسرائيل لإقامة دولة فلسطينية على أراضي 1967، وثانيهما: دعم صمود الشعب الفلسطيني وإدارة شؤونه باتجاه إقامة الدولة المنشودة.

وتحقيقا لهذين البندين الأساسيين، واستقراء للمعطيات الراهنة ضمن المعادلة الفلسطينية والعربية والأوضاع الدولية، فإن أقصى ما يمكن أن يحققه الفلسطينيون في الظرف الراهن:

1-    التركيز على تحقيق الأهداف المبتغاة من حل السلطة والمشار إليها في البندين أعلاه، من خلال التركيز على تغيير وظيفة السلطة، وذلك وفق الآتي:

- إطلاق عملية إصلاح متدرجة تضع في رأس أولوياتها إعادة بناء السلطة الفلسطينية بوصفها أداة لاستعادة السيادة على الأرض خدمة للبرنامج الوطني.

- وبالمقابل التقليل ،وبالتدرج، من ولاية السلطة الفلسطينية على السكان بما يحمّل إسرائيل المزيد من المسؤوليات التي يجب أن تتحمل أعباءها بوصفها قوة احتلال.

وهذا الخيار يفرض التخفف من الاعتماد المالي المفرط على الدول المانحة، والسعي لمزيد من التحرير للقرار الفلسطيني من الضغوط الخارجية والالتصاق أكثر بالنشطاء والقيادات الميدانية.

2-    تفعيل عملية المصالحة بين حماس وحركة فتح بما يساعد على تعزيز صمود وقوة الوظيفة الجديدة للسلطة، بانتظار إيجاد حلول جذرية لحالة الانقسام وذلك:

- بإطلاق ورشة إصلاح محددة البنود للسلطة القائمة بشقيها في غزة والضفة باتجاه خدمة الأهداف المتفق عليها وطنيا، على أن يكون على رأس أولوياتها تصويب وظيفة السلطة التي تقع في نطاق مسؤولية كل من الطرفين: حماس وفتح.

- أن تسمح حكومتا الضفة وغزة كل منهما للطرف الآخر بمزيد من المشاركة في سلطته، كمدخل لإعادة بناء الثقة بينهما، وتهيئة لإطلاق حوار وطني عاجل.

3-    تجاوز فكرة توحيد السلطتين إداريا في غزة والضفة في هذه المرحلة التي تتطلب استجابة فلسطينية عاجلة للتحديات الإسرائيلية الداهمة، ولا شيء يمنع استمرار وجود سلطتين ولو مرحليا -خاصة وأن الحديث عن سلطة تحت الاحتلال وليس عن دولة- بإدارة عليا ومشتركة واحدة تنسق فيما بينها أو تعمل كفريق واحد على تنفيذ البرنامج الوطني الذي يتم التفاهم عليه.

4-    تكثيف الجهود من قبل سلطتي الضفة وغزة لإعداد برنامج وطني مرحلي قصير الأجل يعالج النقاط العاجلة والأساسية فقط، ويمثل الحد الأدنى المتفق عليه بين الفصائل الفاعلة، على أن يكون تعريف مفهوم السلطة، وترسيم حدودها بما يخدم المشروع الوطني أول البنود على جدول أعماله استباقا لأية تداعيات قد تنشأ في هذا الصدد عن انسداد أفق "العملية السلمية".

5-    على المدى البعيد والإستراتيجي، لا يزال الفلسطينيون بحاجة لإيجاد آلية دائمة لاستمرار الحوار الفلسطيني، ولا زال الرهان قائما من الجميع على توسعة منظمة التحرير لتستمر بوصفها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. ولكن إلى حين تحقق ذلك، سيحتاج الفلسطينيون إلى منبر يجمع كل الفصائل والتوجهات يسمو على كل الخلافات مهما كان نوعها أو بلغت حدتها، وتستطيع المنظمة أن توجد أداة لهذه الغاية، فتكون معبرا للوصول إلى المنظمة التي لا تشكل حاليا إطارا جامعا لكل الحركات الفلسطينية، وهي التي أنشأت أداة للتفاوض مع إسرائيل على أمل العبور إلى الدولة.


خلاصة:

إن خيار حل السلطة خيار جذري سيغير المعادلة المحلية والإقليمية والدولية التي استقر عليها الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والصراع العربي الإسرائيلي، كما سيترك تداعيات وتأثيرات سياسية واقتصادية واجتماعية على السكان الفلسطينيين، وهو ما لا تقدر عليه أية جهة فلسطينية بعينها. وبالمقابل فإن قرارا بتغيير وظيفة السلطة القائمة أمر قابل للتحقق، بعد إيجاد تفاهم مرحلي بين القوى الفلسطينية وتحديدا ما بين حماس وفتح، ليتحملا سويا تداعيات هذا القرار وإيجاد البدائل الملائمة له.

ــــــــــــــــــ
المصادر:

اعتمدت الورقة على مصادر عدة، من ضمنها بعض المساهمات المشار إليها أدناه:
- محسن صالح، باحث في الشؤون الفلسطينية، مساهمة مكتوبة، وبوجه خاص في جزء "أزمة السلطة الفلسطينية والخيارات المتاحة"، إضافة إلى مساهمة هاتفية لمناقشة التداعيات والبدائل.
- إبراهيم أبراش، وزير سابق في حكومة سلام فياض، مساهمة هاتفية تركزت على مناقشة التداعيات والبدائل.
- مراسلو الجزيرة نت في فلسطين، مساهمات هاتفية، لتوثيق الخيارات والمعلومات من مصادرها.