الاثنين، 20 ديسمبر 2010

العلاقات السعودية السورية، مرحلة مفصلية

ملاحظة: نشر في 14/11/2010

مركز الجزيرة للدراسات

دخلت العلاقات السعودية - السورية مرحلة جديدة بعد الاحتلال الأميركي للعراق في ربيع 2003، حيث أصيبت بالفتور بعد تضارب سياسات البلدين في مواقع عدة من المنطقة، ثم سرعان ما انحدرت نحو التدهور" بعد حادثة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري في فبراير/ شباط 2005؛ وواصلت انحدارها مع ما أعقب الاغتيال من تداعيات، بما في ذلك الحرب الإسرائيلية على لبنان في صيف 2006، والحرب على غزة 2008-2009.

خلفية أزمة العلاقات السعودية السورية
مسار التقارب والتحديات القائمة
التحديات والحلول الممكنة.



خلفية أزمة العلاقات السعودية السورية

تواجهت السياستان السعودية والسورية في ثلاثة ملفات أساسية: الملف اللبناني، والملف الفلسطيني، والملف العراقي، وقد شاع التعبير عن موقفيهما بـ "محور الاعتدال" وفيه السعودية، و"محور الممانعة" وفيه سوريا.
الملف العراقي
اختلفت تفسيرات السعودية وسوريا لمرحلة غزو العراق وما نتج عنها، فقد تعاملت السعودية مع الغزو الأميركي بما قد يصفه البعض في السعودية بـ "الواقعية"، ورأت أنه جاء نتيجة لتصرفات الرئيس العراقي الراحل صدام حسين؛ في حين رفضت سوريا الغزو ورأت فيه مقدمة لمشروع يستهدف قوى الممانعة في المنطقة، واعتبرت التأييد السعودي لهذه الحرب – أو الموافقة عليها بالحد الأدنى – التحاقا بالركب الأميركي الذي يستهدفها. وقد أيدت دمشق حق العراقيين في المقاومة، حتى اتهمت في الفترة التي تلت الغزو بسماحها للمسلحين ومنهم سعوديون بالتسلل إلى العراق. وكانت هذه الأخيرة إحدى النقاط التي تثير غضب الرياض.

وإلى اليوم ما يزال البلدان مختلفين حول  كيفية إدارة الوضع العراقي وحول كيفية تقدير ما سينتج عنه من تأثيرات على المنطقة والإقليم، خاصة فيما يتعلق بالدور الإيراني؛ فقد اعتبرته الرياض دورا سلبيا ويشكل خرقا لبلد عربي مجاور لها ألا وهو العراق العربي. فيما نزعت دمشق إلى تنظيم خلافاتها مع طهران وتحالفت معها في جبهة واحدة جبهة "الممانعة".

الملف الفلسطيني
تعطي السعودية الأولوية "لخيار السلام" وتؤيد مسار الرئيس الفلسطيني محمود عباس، خاصة بعد سيطرة حماس على قطاع غزة (يونيو/حزيران 2007)، التي جاءت بعد توقيع اتفاق مكة بين حركة فتح وحماس (فبراير/شباط 2007) برعاية من الملك السعودي عبدالله بن عبد العزيز نفسه، وهو الأمر الذي أغضب السعودية وجعلها تبحث عن البصمة الإيرانية في خطوة حماس، وعن التفهم السوري -أو الموافقة- وراءها.


في المقابل، وفي الوقت الذي تعلن فيه سوريا أن الأولوية "للمقاومة"، فقد أبقت على اعترافها بالرئيس عباس وحكومته، إلا أنها "تعاملت إيجابا مع حكومة غزة المقالة" بقيادة إسماعيل هنية، ووفرت لها ما تستطيع من الدعم اللازم، ووقفت إلى جانبها بوضوح خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، واعتبرت الحرب جزءا من السياسة الإسرائيلية في المنطقة. في حين أن السعودية رأت أن من بين أسباب نشوب هذه الحرب تزايد النفوذ الإيراني وبتسهيل سوري في القضية الفلسطينية، وهو النفوذ الذي تستثمره طهران لأغراض كثيرة، منها حماية ملفها النووي ومشروعها في المنطقة.

وفي نفس السياق، اختلفت سوريا والسعودية حول جدوى المفاوضات الإسرائيلية - الفلسطينية المباشرة، وحول كيفية إدارة المصالحة الفلسطينية - الفلسطينية، ولكن يمكن القول إن هذا الخلاف لم يخرج عن دائرة الاختلاف التقليدي المعهود بينهما سابقا.

الملف اللبناني
وإذا كان الملف العراقي فتح باب الاختلاف الإستراتيجي بين دمشق والرياض في قراءة وضع المنطقة، فإن الملف اللبناني ضاعف هذا الاختلاف وفتح الباب أمام "شخصنته". فقد أطلق اغتيال الحريري، وهو "رجل المملكة الأول" في لبنان، مسارا انحداريا في العلاقات السعودية - السورية، حيث أشارت عائلة الحريري ومن ورائها قوى 14 آذار الحليفة للسعودية إلى سوريا بأصابع الاتهام فيما خص اغتيال الحريري، إن لم يكن قضائياً فسياسياً، وإن لم يكن للاتهام بالقتل فبالتسبب به. واضطرت سوريا لسحب جيشها من لبنان وتأزمت العلاقات السورية - اللبنانية، ومن ثم نجحت قوى 14 آذار بدعم سعودي في إطلاق تحقيق دولي ومحكمة دولية خاصة لمحاكمة قتلة الحريري، دخل لبنان خلالها في أتون دوامة اغتيالات استهدفت رموزا من قوى 14 آذار.


ومع اندلاع حرب الصيف في العام 2006 بين إسرائيل و"حزب الله" بلغ الانحدار في العلاقات السورية السعودية أدناه، حيث أتى الموقف السعودي المندد بـ"المغامرات غير المحسوبة" في إشارة لدور حزب الله في التسبب بالحرب، وأعقبه موقف "حاد" من الرئيس السوري بشار الأسد الذي تحدث عن "أشباه الرجال" في النظام العربي وهو ما رأت فيه السعودية إشارة إليها وردا على موقفها. وبدا الأمر وكأن هذه العلاقات وصلت إلى نقطة اللاعودة، خاصة بعد تدهور الوضع اللبناني الداخلي بعد الحرب الإسرائيلية، وصولا إلى قيام حزب الله وحلفاء سورية في مايو/ أيار 2008 بعملية عسكرية في بيروت ضد قوى 14 آذار ووقوع العاصمة بيروت تحت سيطرة قوات الحزب خلال ساعات.

أضرار المرحلة السابقة
تعرضت المصالح السورية والسعودية، والعربية من ورائهما، لأضرار جسيمة في المنطقة، بقدر ما نال العلاقات الثنائية بين البلدين من سوء، ولعل إدراك العاصمتين لحجم الضرر الذي أصاب مصالحهما دفعهما للقفز فوق سلبيات الخلافات ليفتحا حوارا حول الاختلافات بينهما. ويمكن الوقوف على أبرز الأضرار التي أصابت المصالح السورية والسعودية كالتالي:

- على الصعيد اللبناني خرج الجيش السوري من لبنان وتراجع إلى حد كبير  دور سوريا على الأرض، واستمر بالمقابل النفوذ الإيراني لا بل اتسع ليسد بعض الفراغ الذي أعقب الانسحاب السوري وأصبح حزب الله هو المتحكم الفعلي بالساحة اللبنانية.

- على الصعيد العراقي تعرضت سوريا لضغط أميركي كبير، وشنت الطبقة الجديدة الحاكمة في العراق حملات إعلامية ودبلوماسية ضد دمشق بغية محاصرتها؛ ولم يؤد هذا إلى الحد من فعالية دور سوريا فحسب في العراق، بل أدى إلى ضعف التأثير والوزن العربي في العراق. وبالمقابل كان النفوذ الإيراني يتصاعد في مفاصل الدولة العراقية مدفوعا بهاجس الاستهداف الأميركي له وسعيا وراء تأمين مصالحه الحيوية في المنطقة.

- غاب أو كاد يغيب الاهتمام العربي بالموضوع الفلسطيني في غمرة الانقسام السعودي - السوري ومن ورائه العربي، وكلما قارب العرب هذا الموضوع انعكست خلافاتهم عليه، وقمة الدوحة كانت أحد الأمثلة على ذلك. ويبدو أن فلسطين تكاد تقع في "فراغ عربي" لتملأه أو ربما "ملأت بعضه تركيا وإيران". هذا، في الوقت الذي لا يزال الفلسطينيون منقسمين على أنفسهم، وليس لديهم إستراتيجية لمواجهة حرب أو لمتابعة سلم.

مسار التقارب والتحديات القائمة

لعب الملف اللبناني مرة أخرى دورا مفصليا في تحديد مسار العلاقات السعودية - السورية، فمنه بلغت العلاقات حد القطيعة ومنه عادت الحياة إلى الحوار السوري السعودي، حيث عادت العلاقات بين البلدين لتتخذ مسارا إيجابيا، بعد انعقاد اتفاق الدوحة الذي نظم الوضع اللبناني وأوقف مسلسل الاغتيالات، وأخرج لبنان من الفراغ الدستوري بانتخاب رئيس جديد للجمهورية، الرئيس ميشال سليمان. وتوج هذا المسار بمبادرة الملك السعودي في قمة الكويت عام 2009 تجاه سورية ولقائه الأسد، وأعقب ذلك تطورات عدة على المسار اللبناني تمثلت بزيارة سعد الحريري لدمشق وإعلانه تبرئتها من "الاتهام السياسي" الذي كاله لها، ثم جاءت الزيارة المشتركة للملك السعودي برفقة الرئيس الأسد إلى بيروت.

علاقات يكتنفها الضباب
ولكن هذا التقدم المتسارع لم يستمر بنفس الوتيرة حيث شهد بعضا من المراوحة في مكانه ودخلت العلاقات مرحلة من الغموض، وذلك رغم استمرار الحوار على أعلى المستويات بين الطرفين.


فسوريا تعتبر المحكمة الدولية "مسيسة"، وتؤيد مسعى حزب الله لإسقاط القرار الاتهامي الظني المتوقع صدوره بحق بعض عناصره، ولو تطلب ذلك إسقاط المحكمة نفسها دوليا أو معنويا بما يفقدها قيمتها لبنانيا وعربيا وهو ما تحشد الجهود باتجاهه. وتفسر دمشق دعمها هذا لحزب الله بوصف الأخير "مقاومة"، وليس لأنه حزب إسلامي أو شيعي أو "موال لإيران". أما القيادة السعودية، فهي لا تزال تعلن تأييدها للمحكمة، ولا تنظر بارتياح إلى الضغط الذي تمارسه سورية على الحريري الابن للتنازل عنها، مع اقتناعها الكامل بعدم قدرة أحد على تقديم أي تنازلات في ما يتعلق بالمحكمة بسبب التمسك الأميركي بها، مفضلة العمل على تجاوز تداعيات القرار الاتهامي الظني عند صدوره.

أما عراقيا، فقد أثارت موافقة سورية على التجديد لنوري المالكي كرئيس للحكومة العراقية المقبلة تحفظات سعودية، قيل إن الأسد بدد قسما منها في زيارته الأخيرة إلى الرياض. وقد تواترت معلومات عن تعهد سوري بالسعي إلى المحافظة على "الدور السني" في العراق من خلال السعي للمحافظة على دور فاعل لإياد علاوي وكتلته "العراقية"؛ إلا أنه حتى اللحظة لم تظهر أي ترجمة فعلية على الأرض لاتفاق ما بهذا الخصوص، حيث جاءت دعوة العاهل السعودي للقوى العراقية للاجتماع في مكة بعد عيد الأضحى المقبل، دون أن تترفق أو تتزامن مع تأييد أو تشجيع سوري جازم يعضدها.

وتعيد هذه التطورات في الملفين اللبناني والعراقي طرح السؤال مجددا حول مصير العلاقة بين البلدين، مع الإشارة إلى أن الملف الفلسطيني لا يشكل تهديدا حقيقيا للعلاقات السورية السعودية بحيث تعود إلى تدهورها السابق، لأن هناك تسليما واضحا من الطرفين لملف المصالحة إلى مصر، واستمرار تمسكهما بمبادرة بيروت العربية كإطار للسلام الشامل.

التحديات والحلول الممكنة

إن التقارب الأخير بين البلدين لم ينعكس حلا حتى اللحظة على المواضيع الرئيسية المختلف حولها. وذلك بسبب اختلاف ترتيب الأولويات بين البلدين أولا، وبسبب الاختلاف في مقاربة بعض المواضيع المختلف عليها.
 

اختلاف الأولويات والمقارباتعلى صعيد الأولويات في المنطقة، يبدو الاستقرار هو المطلب الرئيسي للسعودية، ثم الحد من التغلغل الإيراني في المنطقة بما يعني المحافظة على سعد الحريري الذي له مكانة خاصة لدى السعودية، وبما يعني عدم تسليم مقاليد السلطة في العراق لمن سيقدم تسهيلات للنفوذ الإيراني في بغداد والمنطقة. أما بالنسبة لسوريا فيأتي أمن نظامها في المقدمة بما يسكنه من مخاوف من أن تنتقل عدوى الطائفية من العراق ولبنان إلى سوريا، أو أن ينعكس مسار المحكمة تهديدا لها. ثم يأتي في المرتبة التالية "حفظ المقاومة" في لبنان المتجسدة في "حزب الله" تحديدا لا بسواه، وحفظ "المقاومة" بمفهومها الواسع في العراق بما يعزز "انتماءه العربي" والمتجسد إلى حد بعيد بالقوى السنية العربية، ولكن بما يمكن لإيران أن تحتمله وبما يسمح لدمشق حفظ وجودها في العراق والتأثير في التوازنات فيه.

وبالنسبة لمقاربة الملفات الأساسية في المنطقة فقد سبقت الإشارة إلى أن الخلاف حول الملف الفلسطيني لن يعود بالعلاقات السورية السعودية إلى ما كانت عليه من سوء بالغ، لأن الخلاف بينهما حول القضية الفلسطينية له إطاره ومساره، ولكن التحدي الأكبر يتأتى من طبيعة التحالفات التي ينسجها البلدان مع قوى إقليمية أو دولية، تعكس خيارات إستراتيجية متناقضة بين الطرفين.

1- فمن جهة تعترض السعودية على طبيعة العلاقة التي تجمع سورية بإيران، وترى أنها جاءت على حساب مصلحة العرب القومية، وأنها تستبطن توجها إيرانيا شيعيا "ذرائعيا" يستهدف المنطقة العربية، وأن سوريا نفسها واقعة تحت هذا الضغط الإيراني نظرا لكثافة التواجد الإيراني في سوريا في مرحلة حكم الأسد الابن، ثقافيا ودينيا وتجاريا واستثماريا، وربما سياسيا. وفي نفس السياق، فقد فتحت حدة الخلافات، وبالذات في المسار اللبناني، الباب أمام إثارة شكوك حقيقية لدى أطراف سعودية نافذة حول حقيقة الدور السوري في المنطقة، وأن سوريا تمارس "الخداع السياسي مع المملكة" ولا يمكن الوثوق بها.

2- ومن جهة أخرى ترى دمشق أن ما وصلت إليه العلاقات السعودية الأميركية في مرحلة غزو بغداد وما تلاها، كانت تسير لمصلحة خلق شرق أوسط جديد يستهدف إعادة رسم خريطة المنطقة، وأن السعودية بمسارها هذا تجاهلت مصالح العرب الكبرى، حيث سقطت بغداد دون ممانعة سعودية حقيقية، وأن دمشق وقعت تحت تهديد حقيقي سواء من جهة بغداد أو بيروت ولم تبادر الرياض إلى الوقوف معها وتركتها في مواجهة محاولات العزل والإطاحة بنظامها، هذا إذا لم تكن بعض الأطراف في المملكة شريكة في ذلك.
ولا تزال هذه الرؤية رغم لغة الحوار السائدة تشكل حتى اللحظة، خلفية عميقة يمكن أن تتحكم بالعلاقات مستقبلا ما لم يتخذ البلدان خطوات متقدمة في حل الخلافات بينهما، مع العلم أن كل التوقعات تشير حتى الآن إلى أن البلدين معنيان بالحد من سوء العلاقة بينهما وعدم العودة للوراء، ولكن بالنظر إلى استمرار حالة الغموض وعدم الحسم، فإن أي تصعيد في المنطقة نتيجة لتطورات إقليمية أو دولية، ستشكل تهديداً ملموساً للعلاقات السعودية - السورية.

توصياتإن حل المشاكل التي لا تزال عالقة بين دمشق والرياض وتحديدا في لبنان والعراق يتوقف بشكل أساسي على قدرة كل طرف منهما على إعادة رسم تحالفاته وهو أمر متعذر في المرحلة الراهنة على الأقل، أو إعادة تعريف علاقته بحليفه الإستراتيجي -أي بطهران وواشنطن- للمرحلة المقبلة، ومن المؤكد أن هذا الأخير لو حصل فعلا فهو يتطلب وقتا وجهدا وثقة عالية بين الأطراف المعنية لإنجازه. ولهذا فإن المطلوب في المرحلة الراهنة مع مراعاة الظروف القائمة هو التالي:

1-ضرورة التزام البلدين بالإصرار المعلن من قبلهما على استمرار الحوار بينهما وتجاوز كل ما من شأنه أن يعود بهذه العلاقات إلى الوراء، وتجنب التصعيد الإعلامي الذي يلاحظ أنه ما يزال مستمرا بالوكالة. مع العلم أنه قد جاءت الإشارة من البلدين وكل على طريقته الخاصة للتأكيد على العلاقة الشخصية الخاصة التي تجمع بين الرئيس السوري والعاهل السعودي بوصفها الضمانة الرئيسية لاستمرار الحوار بين البلدين، مع عدم إغفال أنها جاءت أيضا لتتجاوز البعد الشخصي في الخلاف الذي أجج الخلافات السياسية بين البلدين ووصل بها إلى مستوى غير مسبوق.

2- العمل على تجاوز تحدي المحكمة الدولية الخاصة بمقتل الحريري، بما لا يضع البلدين مجددا في موقعين متناقضين تماما في الساحة اللبنانية. ومن المهم في هذا السياق إيجاد صيغة تضع حدودا للخلاف إذا لم تستطع حله، فإذا لم يكن باليد إلغاء المحكمة لأنها بعهدة المجتمع الدولي، فإنه بالإمكان عدم الانسياق وراء كل ما قد تنتجه المحكمة، وإلا فإن الصراعات التي يحذر الجميع منها ستكون سيدة الموقف والموجه الأساسي للصراع الإقليمي المقبل. وفي نفس السياق لا مناص من تفاوض عربي إيراني، ينتهي بتفويض سوري سعودي لتشكيل صيغة لبنانية لها طابع رسمي أو حزبي محلي، تعمل على ضبط الوضع الداخلي في لبنان، والحؤول دون حصول انفجار سني - شيعي على خلفية أي قرار يصدر عن المحكمة.

3- ضرورة عمل السعودية وسورية معا على تأمين مشاركة سنية معقولة في السلطة التي لا تزال قيد التكوين في العراق، وتعزيز انتماء العراق العربي الذي تراجع كثيرا بعد الاحتلال الأميركي، والحفاظ على وحدته واستقلاله، لأن أمن سوريا والسعودية متصلان بهذا الخصوص، ولأن الالتقاء على هذا الواجب سيساهم في تعزيز الثقة بين البلدين. ومن المهم أن تدرك السعودية في هذا المجال أن سوريا ليست اللاعب الوحيد في العراق، وان لديها هواجسها الخاصة التي يحق لها أن تأخذها بالاعتبار لأنها أكثر التصاقا بالشأن العراقي وتضررا منه.

4- ضرورة أن تنخرط كل من السعودية وسورية حالا في حوار لإعادة تعريف المصلحة العربية في المنطقة، وأن تضعا لها حدودا لا تمس بأمن الطرف الآخر، أو أي من الأطراف العربية الأخرى، لأن مرحلة ما بعد الاحتلال الأميركي للعراق نقلت المخاطر التي تهدد الأمن العربي من "الحدود مع إسرائيل"، إلى الداخل العربي ، ولم يعد مثل هذا الحوار يحتمل أي تأجيل. انتهى.

ــــــــــــــــــ
المصادر:
اعتمدت الورقة على مصادر عدة خاصة وعامة، منها شخصيات سياسية وبحثية وصحفية من السعودية وسورية والعراق ولبنان وفلسطين،  ومن ضمنها بعض المساهمات الهاتفية المشار إليها أدناه بحسب الترتيب الأبجدي:
- باسل حسين، باحث، الشؤون العراقية.
- خالد الدخيل، باحث، الشؤون السعودية.
- زهير الحارثي، عضو مجلس الشورى السعودي، الشؤون السعودية.
- سمير منصور، كاتب في جريد النهار اللبنانية، الشؤون اللبنانية.
- عامر الكبيسي، صحفي في قناة الجزيرة ، الشؤون العراقية.
- عمر كوش، كاتب، الشؤون السورية.
- قاسم قصير، صحفي وكاتب، الشؤون اللبنانية.
- محسن صالح، باحث، الشؤون الفلسطينية.

الأحد، 19 ديسمبر 2010

الحياة السياسية في لبنان.. قراءة أولية

ملاحظة: إعداد عام 2006

شهدت الحياة السياسية في لبنان بعض الاستقرار النسبي بعد نهاية الحرب الأهلية وتفعيل اتفاق الطائف، ودخلت بعد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري في دوامة من الأزمات كادت تعيد البلاد إلى أجواء الحرب الأهلية.
ولكن في كل الأحوال بقيت مجموعة من السمات شاخصة في بنية النظام اللبناني وفي طريقة ممارسة الساسة للسياسة فيه، سواء في حال الاستقرار أو في حال الأزمات.

منها استمرار ضعف الدولة بشكل عام وتوزع مؤسساتها الدستورية على أساس طائفي فضلا عن تداخل صلاحياتها فيما بينها، كما تتفشى ظاهرة الوراثة في العمل السياسي وتطل برأسها من حين لآخر وفقا للتغيرات السياسية، ظاهرة التفلت من العقاب واستقواء بعض السياسيين بالسلطة على بقية أجهزة الدولة القضائية والإعلامية وغيرها، الأمر الذي يحول دون انتظام الحياة السياسية في البلاد.
وفيما يلي بعض الملامح والسمات البارزة في المشهد السياسي اللبناني.

الحياة الحزبية
الانتخابات
 التداول
العلاقة بين السلطات
الحريات
المجتمع المدني


الحياة الحزبية

يفتقر لبنان حتى الساعة لقانون أحزاب عصري فما زال قانون الجمعيات العثماني الصادر عام 1909 هو المرجع القانوني لتأسيس الأحزاب، وهذا القانون يمتاز بمرونة من ناحية إتاحة الحرية بحيث إن تأسيس الجمعيات وفقه -والأحزاب من ضمنها- لا يحتاج إلى أي ترخيص، بل يكتفي المؤسسون بإعلام وزارة الداخلية بهذا التأسيس بعد حصوله، وهو ما تنص عليه المادة السادسة من القانون المذكور.

كما يكفل الدستور اللبناني في مادته 13 حرية إنشاء الجمعيات تماما كما يكفل حرية التعبير تماما.
ولكن من جهة أخرى لا يفرض هذا القانون على الأحزاب أن تكون ذات برامج وطنية حصرا بعيدا عن الأهداف المذهبية والفئوية أو أن تكون مفتوحة لكافة اللبنانيين من كل المذاهب والمناطق، وإن كان هناك بالفعل أحزاب -وهي قليلة- عابرة للطوائف.
والواقع اللبناني يقول إن الأحزاب اللبنانية المؤثرة فعلا هي في الغالب قائمة على أساس طائفي ديني، رغم كل الإصلاحات التي جرت وخاصة في اتفاق الطائف عام 1989 الذي أنهى الحرب اللبنانية.

فعلى سبيل المثال الأحزاب الفاعلة راهنا والرئيسية في لبنان هي:
- حزب الله وحركة أمل، وهما خاصان بالطائفة الشيعية.
- تيار المستقبل عمدته وتمثيله الأساسي للسنة رغم وجود شخصيات بارزة غير سنية فيه.
- حزب التقدم الاشتراكي خاص بالدروز.
- القوات اللبنانية وحزب الكتائب والتيار الوطني الحر خاصة بالمسيحيين رغم أن الأخير يضم شخصيات غير مسيحية.
ومن نتائج قيام الأحزاب على أساس طائفي أن أي انقسام سياسي بينها وخاصة الحاد منه يؤدي تلقائيا لانقسام طائفي وخصومة ذات بعد ديني، الأمر الذي يفتح الباب أمام الدول الخارجية الراعية تقليديا لطوائف لبنان للتدخل والدفاع عن حلفائها، مما يجعل أحزاب لبنان في بعض الأحيان رهينة التدخلات الخارجية.

الانتخابات

"
اتفاق الطائف حدد المحافظة كتقسيم انتخابي وحدد عدد النواب في 108، في حين أنه في الواقع جرت خمسة انتخابات وفق ثلاثة قوانين مختلفة وتحدد فيها عدد النواب بـ128 نائبا
"
يحظى لبنان بانتخابات دورية سواء كانت تشريعية أو رئاسية أو غير ذلك.
وقد انتظمت العملية الانتخابية في لبنان على كل المستويات خاصة بعد اتفاق الطائف (1989) الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية.
وتعتبر الانتخابات النيابية اللبنانية التي تجري كل أربع سنوات، جوهرية وأساسية للحياة السياسية اللبنانية، لأن المجلس النيابي الذي ينتخب من الشعب مباشرة هو الذي ينتخب رئيس الجمهورية كل ست سنوات، كما أن رئيس الحكومة يعينه رئيس الجمهورية بناء على استشارات ملزمة من النواب، أي بمعنى آخر بانتخاب النواب له.
الانتخابات النيابية
تعاني العملية الانتخابية النيابية من عيوب بنيوية رغم كل محاولات الإصلاح وأهمها:

الثبات في التوزيع الطائفي للمقاعد الذي يفرض المناصفة -بحسب الطائف وبحسب الدستور (المادة 24 منه)- بين الفرق الإسلامية والفرق المسيحية، بغض النظر عن الفرق السكاني بين الفريقين. وهذه المعضلة يبدو أن إصلاحها بعيد المنال في المدى المنظور، لأسباب تتعلق بالنظام اللبناني الذي قام على ذلك "القران الخاص بين تراث برلماني غربي وتراث محلي طائفي"، بحسب وصف أحد السياسيين اللبنانيين.
والمعضلة الأخرى أنه لا يوجد حتى الآن في لبنان قانون انتخاب نيابي ثابت ذي تقسيمات جغرافية ثابتة للدوائر الانتخابية، وقد جرت محاولات عديدة لإنتاج مثل هذا القانون لكنها باءت حتى الآن بالفشل، وفي العادة لا يقر قانون الانتخاب إلا قبل الانتخابات بفترة قصيرة جدا.
فلبنان منذ العام 1922 أي قبل الاستقلال وحتى الآن، عرف نحو 14 قانونا للانتخاب، ويمكن القول إنه جرت فيها كل أشكال الانتخاب من الدائرة الفردية إلى القضاء فالمحافظة، حتى أن النسبية جربت، وإن بشكل بدائي.
ولم يفلح الاتفاق الوطني -أي اتفاق الطائف- في تجاوز هذه المشكلة رغم أنه حدد المحافظة كتقسيم انتخابي، وحدد عدد النواب في 108، فيما أنه في الواقع جرت خمسة انتخابات وفق ثلاثة قوانين مختلفة وتحدد فيها عدد النواب بـ128 نائبا.
فانتخابات عام 1992 جرت وفق تقسيم ثلاثي حيث أقيمت الانتخابات في بعض المناطق وفق "القضاء" أي وفق الدائرة الصغرى، وفي أخرى وفق "المحافظة" أي دوائر كبرى، وفي نفس الوقت دمجت محافظتان في الجنوب اللبناني في دائرة واحدة.
وبهذا تفاوت تمثيل النواب للشعب، فالبعض يمثلون بضعة آلاف أو أقل من المواطنين وآخرون يمثلون عشرات الآلاف.
وجرت انتخابات 1996 وفق نفس عدد النواب ووفق نفس المبدأ السابق من تفاوت في حجم الدوائر الانتخابية.
أما في عام 2000، فقد قسمت بيروت إلى ثلاث دوائر انتخابية، ومحافظة جبل لبنان إلى ثلاث دوائر، والبقاع إلى ثلاث دوائر، ولبنان الشمالي إلى دائرتين، في حين دمجت محافظتا الجنوب والنبطية في دائرة انتخابية واحدة.

وبعد مقتل رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري جرت الانتخابات الأخيرة في عام 2005 وفق قانون عام 2000 رغم إعلان كل القوى السياسية اعتراضها عليه!

ومن أسباب تغير القانون الانتخابي تغير موازين القوى بين الطوائف وتوزعها الجغرافي إضافة للتدخل الخارجي. ومن الأمثلة على ذلك إقرار كل الفرقاء بدون استثناء بعد انسحاب القوات السورية من لبنان أن الدوائر الانتخابية كانت تقسم بتفاوت من حيث الحجم والجغرافيا وفق مصلحة بعض أنصار سوريا وليس وفق معيار موضوعي واحد.

والأهم من ذلك كله أن القوى المختلفة اعتادت العمل بحرص شديد على تحديد مكاسبها ومقاعدها سلفا بقانون الانتخاب، وليس بنتيجة العملية الانتخابية فحسب.

الانتخابات الرئاسية
أما الانتخابات الرئاسية فقد استمرت طيلة فترة الحرب، وكان رينيه معوض أول رئيس ينتخب بعد الطائف عام 1989 لكنه قتل فخلفه إلياس الهراوي في نفس العام وأعيد التمديد له بعد انتهاء ولايته عام 1995 لثلاث سنوات.

ثم انتخب عام 1998 إميل لحود بعد تعديل خاص سمح له بالترشح للرئاسة لأن القانون يمنع موظفي الفئة الأولى في الدولة من الترشح، وهو كان يومها من تلك الفئة بوصفه قائدا للجيش، وبعد انتهاء ولايته تم التمديد له عام 2004 لثلاث سنوات. والتمديد له وللهراوي تم وفق تعديل دستوري خاص.

واختيار رئيس الجمهورية يتم وفق موازين القوى الإقليمية ومقدار تأثيرها على القوى الطائفية المحلية ومن ورائها الدولية، فلهذا لا يوجد ترشح رسمي للانتخابات الرئاسية، ويعلن اسم الرئيس في اللحظات الأخيرة.

اختيار رئيس الحكومة
أما رئاسة الحكومة فليست أحسن حالا من سابقتها، وإن كانت بحسب التجارب السابقة من أكثرها انتظاما من ناحية الشكل القانوني، ولكنها في المضمون تقول إن رئيس الحكومة يتحدد اسمه وفق المنطق السابق، وإن النواب قبل دخولهم على رئيس الجمهورية لإعلان مرشحهم فإن الاسم يكون قد تقرر وفق الموازين السابقة التي تحكم اختيار رئيس الجمهورية، ولكن بحيوية أكبر.
وهكذا فالمسارات الثابتة للنفوذ الخارجي -بفعل الثقافة الطائفية، وبناء القانون على أساس طائفي- دائما تؤثر في العملية الانتخابية وقد تحدد نتائجها بالإجمال سلفا، وتحول دون قيام حياة انتخابية صحيحة، ويستثنى من ذلك الانتخابات المحلية بسبب التأثير العائلي فيها.

التداول

يتم تداول السلطة في لبنان من حيث الشكل كما هو الأمر في أي نظام جمهوري، ولكن قيام الحياة السياسية على أساس طائفي وإرث سياسي يحصر تداول بعض المناصب في فئات وطوائف محددة.

فبحسب العرف المعمول به منذ الاستقلال وهو أقوى من المواد الدستورية في النظام اللبناني، ينحصر تداول منصب رئاسة الجمهورية في الطائفة المارونية، ومنصب رئاسة المجلس النيابي في الطائفة الشيعية، ومنصب رئاسة الوزراء في الطائفة السنية، إضافة إلى حصر مناصب أخرى أقل شأنا بطوائف أقل حجما.

ومن جهة أخرى رغم الحيوية النسبية التي تتمتع بها الحياة السياسية اللبنانية، فإنها تشهد ميلا لترسيخ نوع من "التوارث السياسي" يحصر الزعامة في عائلات محددة أو في جهات محددة، بما يعرقل التداول في مزاولة العمل السياسي بشكل عام، بغض النظر عن استلام المناصب في الدولة أو الحكومة.

فالسياسيون اللبنانيون البارزون في الغالب إما هم ورثة لزعامة سياسية على سبيل المثال وليد جنبلاط، أمين الجميل ومن ماثلهم، أو هم مؤسسون "لوراثة سياسة" جديدة، ومن أبرز التجليات الحالية لهذه العملية تأسس زعامة ناشئة لآل الحريري في الطائفة السنية بعد اغتيال المؤسس لها رفيق الحريري.

ومن الموانع للتداول أيضا ثقة الخارج النافذ لبنانيا ببعض الشخصيات اللبنانية بحيث يستبقيها في مناصبها ومواقعها السياسية لمدة طويلة، أو ثقة الطائفة به وبقدرته على حفظ مصالحها الطائفية. فنبيه بري لا يزال رئيسا للمجلس النيابي منذ أول انتخابات نيابية بعد الطائف عام 1992، وترأس رفيق الحريري خمس حكومات منذ عام 1992، ومددت الولاية للرئيسين إلياس الهراوي وإميل لحود بعد تعديلات دستورية خاصة، والأخير قبل انتهاء ولايته كان قد وقع عدد من النواب عريضة قالوا فيها إنهم أكرهوا على التمديد للرئيس لحود من قبل سوريا.

والجدير بالذكر أنه نتيجة لتعديلات الطائف على الدستور فقد أضيفت المادة 95 التي تقول إنه على مجلس النواب "اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية وتشكيل هيئة وطنية" لهذه الغاية وهو ما لم يتم حتى الآن.

العلاقة بين السلطات

جعلت وثيقة الاتفاق الوطني، التي توافقت عليها الأطراف اللبنانية في الطائف، السلطة موزعة على الرئاسات الثلاث، رئاسة الجمهورية ورئاسة المجلس النيابي ورئاسة الحكومة. فأصبحت السلطة التنفيذية في يد مجلس الوزراء مجتمعا كما في المادة 17 و65، وبهذا قلصت صلاحيات رئيس الجمهورية ونزعت منه معظم السلطة الإجرائية، وما تبقى منها في يده أصبح خاضعا لموافقة مجلس الوزراء أو بالشراكة معه، في حين أنيطت به مهمة عامة هي حفظ الدستور ووحدة الوطن (المادة 49)، كما عززت من شأن رئاسة المجلس النيابي بعد أن جعلته عصيا على الحل إلا في حالات نادرة وبالتوافق بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة.

ولقد كشفت الممارسة والأزمات الداخلية خاصة الأخيرة أن هذه الإصلاحات ليست كافية، فنصوص القوانين المنظمة للعلاقة بين المؤسسات الدستورية وصلاحياتها وهامش التفسير لها يسمح بالتداخل والتضارب فيما بينها بما يتطلب الانسجام بين الرئاسات الثلاث المذكورة آنفا وإلا تتعطل البلاد، كما أن للعرف والسابقة تاريخيا في النظام اللبناني سلطة كبيرة تغري كل مؤسسة دستورية بمحاولة الافتئات على صلاحيات غيرها على أمل تكريس سابقة تجري في المستقبل مجرى القانون.

وشملت الخلافات قضايا ثانوية ورئيسية وكانت تنشأ صيغ حكم ثنائية ما بين إحدى الرئاستين إذا اتفقتا، أو ثلاثية إذا اتفقت الرئاسات الثلاث، إضافة إلى مشاكل أخرى يمكن الإشارة إلى أبرزها.

فبعد انتخاب إميل لحود رئيسا للجمهورية عام 1998 فوضه بعض النواب أن يختار من يشاء لرئاسة الحكومة، وهو ما اعترض عليه رفيق الحريري وآخرون على أساس أن المادة 53 من الدستور تنص على إلزام الرئيس بنتيجة الاستشارات النيابية، وبالتالي يسمي لرئاسة الحكومة من تسميه أكثرية النواب، أما من فوضه للاختيار عنهم فتعتبر إشارتهم لاغية، وهو ما انتهى إليه الأمر بعد أن مرت البلاد بأزمة حادة.

ومن الأمثلة أيضا وأخطرها الأزمة الأخيرة التي حصلت بانسحاب الوزراء الشيعة الستة من حكومة فؤاد السنيورة، وقولهم إن الحكومة أصبحت غير شرعية لأن مقدمة الدستور تقول بأن "لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك"، وانسحاب ممثلي طائفة كبيرة من الحكومة يناقض ميثاق العيش المشترك، وبالتالي لا شرعية للحكومة القائمة، فيما رفض آخرون هذا الرأي وعلى رأسهم الرئيس السنيورة.

ومن جهة ثانية اتهمت الحكومة ومن يمثلها من نواب الأغلبية في البرلمان رئاسة المجلس النيابي بتعطيل انتخاب رئيس جديد للجمهورية اللبنانية بعد أن انتهت ولاية الرئيس لحود.

وقد سرت مفاعيل هذا الخلاف بين البرلمان والحكومة على كافة أجهزة الدولة وعلى علاقتها بعضها بعضا، وأصيبت البلاد جراء ذلك بالشلل وعدم انتظامها وكادت تدخل في نفق الحرب الأهلية مجددا، إلى أن انفرجت الأزمة باتفاق الدوحة الذي أعاد المسار السياسي اللبناني الدستوري إلى مساره ولو إلى حين، حيث تم انتخاب الرئيس الجديد ميشال سليمان وتشكلت حكومة من الموالاة والمعارضة.
فعدم الوضوح في العلاقة بين السلطات واستئثار كل طائفة أو أكثر بواحدة منها جعل الدولة متعددة الرؤوس والتوجهات، وهو ما ترجمته الخلافات الأخيرة حول مجموعة من القضايا الأساسية المتعلقة بتوجهات الدولة اللبنانية إزاء محيطها الخارجي، وكذلك إزاء بعض القضايا الداخلية وأهمها على الإطلاق مصير سلاح حزب الله بوصفه "سلاح مقاومة" والصورة التي يجب أن تكون عليها "استراتيجية الدفاع عن لبنان".

الحريات

يقول الدستور اللبناني في المادة 13 منه "حرية إبداء الرأي قولا وكتابة، وحرية الطباعة وحرية الاجتماع وحرية تأليف الجمعيات كلها مكفولة ضمن دائرة القانون".
ومشكلة لبنان الرئيسية التي كثرت منها الشكوى هي اتهام القضاء بالخضوع للسياسيين اللبنانيين من ذوي النفوذ، وكلما استلم فريق منهم السلطة رمى الآخر بهذه التهمة، ودعت جمعيات حقوقية عدة لإصلاح القضاء اللبناني وحمايته.
ومن الأمثلة على ذلك أنه منذ توقف الحرب الأهلية كانت التهمة موجهة لأنصار سوريا باستعمال القانون والسلطة لاضطهاد معارضيهم، وأنهم استهدفوا القوى المسيحية المناهضة للوجود السوري من أنصار ميشال عون الذي حكم عليه بالنفي وسمير جعجع الذي حكم عليه بالسجن، إضافة إلى بعض القوى السنية الموصوفة بأنها أصولية.
وبعد الخروج السوري من لبنان اتهمت المعارضة -المصنفة موالية لسوريا- السلطات اللبنانية بأنها تحتجز أربعة ضباط كبار كمتهمين في قضية اغتيال رفيق الحريري لدواع سياسية.

وعلى الصعيد الإعلامي فإن قانون المطبوعات ينص على العقوبة بالسجن للصحافيين وبالغرامة المالية، وإنشاء الصحف في لبنان ليس أمرا صعبا نسبيا ويمنح الترخيص من وزير الإعلام بعد استشارة نقابة الصحافة (المادة 27 منه).

ولكن الأمر يختلف مع قانون المرئي والمسموع الذي ينص على أن تأسيس مؤسسات الإعلام المرئي والمسموع يخضع لترخيص مسبق(المادة 3 منه)، ويمنح الترخيص بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بعد استشارة المجلس الوطني للإعلام المرئي والمسموع (المادة 16 منه). ولكن المشكلة الحقيقية في قطاع المرئي والمسموع ليست في النص القانوني إنما في الطبيعة السياسية الطائفية للبلد، حيث وزعت السلطة السياسية الرخص الإعلامية للأقنية التلفزيونية والإذاعية وفق معايير طائفية ووفق موازين النفوذ السياسي، حيث يستحيل تأسيس أي مؤسسة إعلامية خارج هذا الإطار.

كما أن هيمنة السياسيين على الحياة العامة أضعفت مصداقية القوانين التي ترعى الإعلام ومجالاته، لأن الساسة يستطيعون بسهولة النيل من الصحافيين والإعلاميين بقضايا قد لا تتصل بقانون المطبوعات أو قانون المرئي والمسموع.

على سبيل المثال فقد تعرضت أكثر من وسيلة إعلامية للمضايقة والتحكم، من ذلك إيقاف تلفزيون "أم تي في" بشكل دائم أثناء الوجود السوري في لبنان بقرار قضائي صادر عن محكمة المطبوعات في الرابع من سبتمبر/أيلول 2002 بدعوى مخالفتها نص المادة 68 من قانون انتخاب أعضاء المجلس النيابي، بينما عزى القائمون على القناة السبب إلى مناهضتهم الوجود السوري.
كما أوقف رئيس مجلس إدارة تلفزيون "نيو تي في" تحسين الخياط بتهمة التعامل مع العدو والإساءة إلى دول عربية شقيقة في السادس من ديسمبر/كانون الأول 2003 ورغم عظم التهمة أفرج عنه بعد 24 ساعة دون أي إيضاحات، واتهم الخياط أطرافا لبنانية وسورية نافذة في لبنان بأنها وراء الأزمة التي حلت به.

كما أن بعض الصحفيين تعرضوا للسجن لمدد مختلفة، منها على سبيل المثال إيقاف ثلاثة صحافيين يعملون في تلفزيون "نيو تي في" لدخولهم عنوة شقة أحد الشهود والعبث بالأدلة في قضية اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري وتم سجنهم لمدة شهر ونصف ابتداء من 19 ديسمبر/كانون الأول 2006 ثم أطلق سراحهم بكفالة مالية، في حين أن القناة اعتبرت نفسها حينها مستهدفة لمعارضتها السلطة القائمة.

فضلا عما سبق فقد تعرض لبنان لموجة من التفجيرات المجهولة المصدر وتبينت خيوط بعضها بحسب مصادر لبنانية، وأودت بحياة عدد من السياسيين والعسكريين اللبنانيين إضافة إلى الصحافي جبران تويني فيما نجت الإعلامية مي شدياق من عبوة ناسفة وضعت في سيارتها.

كما تعرض صحافيون يعملون في مؤسسات لبنانية تتبع -أو متهمة بالانحياز- لجهات سياسية محلية، لاعتداءت ومضايقات من جهات سياسية أخرى مناوئة.

فلبنان بالإجمال، وقياسا على محيطه العربي، يشكو من ضعف سيطرة القانون والتفلت من العقاب ومن تلفيق التهم على خلفيات سياسية أكثر مما يشكو من نقص الحريات، خاصة في أوقات الأزمات، وهذا دفع أحد رؤساء الوزراء فيه، سليم الحص للقول:
"في لبنان الكثير من الحرية وإنما القليل من الديمقراطية، فالديمقراطية نظام وثقافة، ولبنان يفتقدها إلى حدٍ بعيد في وجهيها".


ينظم قانون الجمعيات العثماني الصادر عام 1909 كافة الأشكال والتجمعات السياسية والمدنية، وتنص المادة السادسة منه على أن لا حاجة لرخصة مسبقة لتأسيس أي جمعية إنما يكفي إعلام وزارة الداخلية بذلك بعد التأسيس وهو ما يسمى إعطاء علم وخبر بالتأسيس.
كما أن الدستور اللبناني يقول في مادته الثالثة عشر: "حرية إبداء الرأي قولا وكتابة وحرية الطباعة وحرية الاجتماع وحرية تأليف الجمعيات كلها مكفولة ضمن دائرة القانون".

فبسبب النصوص القانونية الراعية للحريات وبسبب التعددية الطائفية الموجودة على أرضه، تنشط في لبنان كافة أنواع العمل التطوعي والشعبي وكافة أنواع التجمعات المستمرة والمؤقتة، العامة والخاصة، وفي العادة تفضل الحملات والنشاطات العربية أن يكون منطلقها العاصمة اللبنانية لتوفر هامشا واسعا من الحرية تسمح به ظروف لبنان وقوانينه.

ولكن ظروف عدم الاستقرار والأزمات السياسية التي تعصف بلبنان من حين لآخر فضلا عن تفشي العنف في أحيان أخرى كما هو الشأن مع الاغتيالات الأخيرة التي استهدفت عددا من السياسيين والصحافيين اللبنانيين، قد تضعف من نشاط مؤسسات المجتمع المدني.
ثم إن النفوذ الطائفي في المجتمع اللبناني كثيرا ما يفقد مؤسسات المجتمع المدني الوطنية والإنسانية قدرتها على التأثير، رغم امتياز الحرية الذي تحظى به سواء في التأسيس أو العمل.
_______________
مركز الجزيرة للدراسات

مصادر:
1- أرشيف الجزيرة نت.
2- انظر كتاب "لبنان والطائف" لعارف العبد، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت.
3- انظر "المجتمع والدولة في المشرق العربي" للوزير غسان سلامة، مركز دراسات الوحدة العربية، وفيه وصف النظام اللبناني بأنه إرث برلماني غربي وإرث طائفي محلي، صفحة 141.
4- انظر مقالة "الأداء التشريعي للمجالس التشريعية العربية (دراسة مقارنة)، الحالة اللبنانية" لعزّة وهبة، موقع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي:
http://www.pogar.org/publications/legislature/wahby1a/section8.html
5-انظر جريدة اللواء اللبنانية، ملف قوانين الانتخاب الذي نشر على خمس حلقات في عام 2005، على التوالي في 26 و29 و30 أغسطس/آب، وفي 10 و17 سبتمبر/أيلول.
6- للاطلاع على قانون المطبوعات اللبناني انظر الموقع المتخصص الصحف كوم، تواريخ الصحافة.
http://www.elsohof.com/tawareekh0000004.html
7- للاطلاع على أبرز مواد قانون البث التلفزيوني والإذاعي انظر موقع معهد حقوق الإنسان لنقابة المحامين اللبنانيين، البث التلفزيوني والإذاعي قانون رقم 382 - صادر في 4/11/1994.
http://www.humanrightslebanon.org/arabic/CulturalRights.html
8- للاطلاع على الدستور اللبناني وتعديلاته بعد اتفاق الطائف انظر موقع مجلس النواب اللبناني:
http://www.lp.gov.lb/doustour/default.htm
9- للاطلاع على وثيقة الوفاق الوطني التي أنجزت عام 1989 بين الأطراف اللبنانية وأنهت الحرب الأهلية، انظر موقع المجلس الدستوري اللبناني:
http://www.conseil-constitutionnel.gov.lb/ar/arabic/taef.htm