الخميس، 21 أبريل 2016

ترشيحات الرئاسة اللبنانية: من الفراغ إلى المؤتمر التأسيسي

شفيق شقير


لم تستطع القوى اللبنانية انتخاب رئيس جديد للجمهورية منذ عام 2014 وتعيش البلاد حالة فراغ دستوري قد تجعل من لبنان دولة فاشلة أو قد تقوده نحو تعديل اتفاق الطائف أو استبدال آخر به يعيد رسم المشهد السياسي اللبناني وعلاقاته الداخلية والخارجية.

ملخص:
انتهت ولاية رئيس الجمهورية ميشال سليمان، عام 2014، لتكشف أن التبدل العميق في التحالفات السياسية المحلية بعد اغتيال الحريري، عام 2005، والتحولات الإقليمية بالثورة السورية، عام 2011، قد أدخلت لبنان في جمود سياسي يحول دون انتخاب رئيس جديد. فاللبنانيون منقسمون على بعض المكاسب الداخلية والخيارات الإقليمية، فهناك قوى 8 آذار من مؤيدي سوريا وإيران وبمقابلهم خصومهم من قوى 14 آذار. ولكن بالموازاة هناك خلاف آخر مضمَر يتجاوز هذا الانقسام ويدور حول الطائف؛ حيث يميل سعد الحريري (8 آذار) ونبيه بري (14) نحو استمرار اتفاق الطائف وأن لا يُمَسَّ جوهره، في حين يراهن حزب الله مع زعيم التيار الوطني الحر، ميشال عون، على تعديل الطائف عميقًا أو استبدال مؤتمر تأسيسي آخر به. وبسبب التناقضات التي نشأت عن وجود هذا الخلاف المركب في لحظة سياسية واحدة، لم تستطع كل من 8 أو 14 آذار الإجماع على مرشح واحد للرئاسة؛ ما يضعها جميعًا أمام اختبار صعب، إمَّا انتخاب رئيس للطائف أو رئيس لمؤتمر ما بعد الطائف أو تعديله.

شهد لبنان في المرحلة الفاصلة ما بين انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان، 5 مايو/أيار 2014، وإلى حين إعلان رئيس القوات اللبنانية، سمير جعجع، ترشيحه زعيم التيار الوطني الحر، ميشال عون، للرئاسة 18 يناير/كانون الثاني 2016، فراغًا كبيرًا لم تستطع الأحزاب اللبنانية خلاله انتخاب رئيس جديد ولا إجراء انتخابات نيابية جديدة واكتفى مجلس النواب بالتمديد لنفسه(1)، كما شغرت مناصب ووظائف عدَّة في الدولة، مدنية وعسكرية، بسبب الخلافات الحادَّة بين الأطراف اللبنانية(2)، وقد تغوَّل الفراغ حتى أثَّر على الأداء اليومي للأجهزة الرسمية للدولة، ووصل الأمر إلى حدِّ عجز الدولة عن إيجاد حلٍّ لأزمة النفايات(3)، كما حذَّر وزير المالية مرة من عجز الدولة عن تسديد رواتب موظفيها لأسباب تتصل بالفراغ(4).
وما زال مجلس النواب اللبناني عاجزًا عن الاجتماع وفق النصاب المكتمل لانتخاب رئيس للجمهورية، رغم أن قوى 14 آذار انتهت إلى ترشيح شخصيتين من قوى 8 آذار؛ فزعيم تيار المستقبل، سعد الحريري، طرح ترشيح رئيس تيار المردة، سليمان فرنجية، وسمير جعجع رشح ميشال عون، وهما مرشحان كان من المفترض أن يكون مجمَعًا عليهما وأن تسعى قوى 8 آذار لتحقيق النصاب وانتخاب أيٍّ منهما، أو هكذا من المفترض أن تبدو الصورة.

بين المحلي والإقليمي
هناك رأيان كثيرًا ما يترددان في لبنان: أحدهما أن الفراغ سيبقى مرتبطًا بتطورات الإقليم، وأنه لم يعد مقتصرًا في ذلك على ما يجري في سوريا بل تعداها إلى اليمن وإلى مجمل العلاقات السعودية-الإيرانية المتوترة. ورأي آخر يقول: إنه صنيعة لبنانية لأن التسوية لا تضر أيًّا من الطرفين الإقليميين وإنهما تركاها للبنانيين ولتقديراتهم بما يحقق مصالحهم في إطار هذا النزاع وما الفراغ بالنسبة لهما راهنًا إلا تفصيلًا محليًّا. وهذا لا ينفي أن دوافع القرار بإطالة عمر الأزمة وأمد الفراغ، سواء كانت محلية أو إقليمية، لن تُحل إلا بطريقة ترضي الأطراف الإقليمية وتطمئن الأطراف المحلية على مكاسبها، لأن المصالح بين البعدين متداخلة ولا يمكن فصلها.
وفي هذا السياق، يرى تيار المستقبل أن استمرار الفراغ يخدم حزب الله لبنانيًّا، لأنه كلَّما غابت الدولة تعزَّز موقف هذا الأخير، ويخدم إيران إقليميًّا حيث يلعب لبنان دورًا مفتاحيًّا في حروبها الإقليمية لاسيما في سوريا، كما إنه ينال من شرعية اتفاق الطائف الذي يتآكل بحكم الواقع يومًا بعد يوم بسبب خرقه أو الاختلاف على تفسير مواده؛ ما يحتِّم المبادرة لانتخاب رئيس دون إطالة الانتظار أكثر، ولن يتم ذلك إلا بتحفيز الساحة المسيحية لتتوافق أو تتفاوض في سبيل ذلك، في حين أن شريكه جعجع كان يفضِّل التزام مرشح آخر من خارج قوى 8 آذار(5).
أمَّا حزب الله الأكثر فاعلية في قوى 8 آذار، فإن الأولوية الإقليمية لديه تتقدم على الأولويات المحلية، بسبب استغراقه في الحرب السورية، وأعطى حلفاءه الحصة الأكبر في تقرير الخيارات المحلية الأنسب لهم، وهم مختلفون في ما بينهم فلم يستطيعوا أن يجتمعوا ولو على مرشح واحد منهم، فلديهما مرشحان: ميشال عون وسليمان فرنجية. أمَّا الراعي الإيراني فإنه حريص على أن يكون وريث سوريا في اتفاق الطائف وهو حاصل بلا نقاش وتكرَّس باتفاق الدوحة(6)، وأن يكون شريكًا في أية صيغة قد تحل مكان الطائف، "وترك التفاصيل المحلية لحزب الله وهو قادر على التعامل معها".
وبهذا، فإن قوى 8 و14 بغضِّ النظر عن المسارات الإقليمية، يجد كل منها في داخله مسارين على الأقل وفي اتجاهين مختلفين، ليكون بهذا استمرار الفراغ أحد العوامل المهدِّدة لاستقرارهما ودليلًا على عجزهما ولو بتفاوت فيما بينهما. كما أن مبادرة كل منهما إلى ترشيح مرشحه المفضل لم تُطرَح بجدية من قبل حلفائهما الإقليميين أي السعودية وإيران، وبسبب التداخل بين البُعدين المحلي والإقليمي لن يكون الحل إلا بمبادرة هي مزيج من كليهما.

الفراغ واختبار التحالفات
كان زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي النائب الدرزي، وليد جنبلاط، أول من أدرك قدوم الفراغ الرئاسي نتيجة جمود الوضع السياسي على الانقسام بين ثنائية 14 و8 آذار، وحاول الخروج بمبادرة تنهي هذا الجمود قبل نهاية ولاية رئيس الجمهورية ميشال سليمان، وأعطى نجيب ميقاتي الثقة ليكون رئيس حكومة (16 يونيو/حزيران 2011) -وصفها المستقبل بأنها حكومة حزب الله-، وأطلق معه إلى جانب رئيس الجمهورية، ميشال سليمان، ما يشبه تحالفًا وصفه جنبلاط بالتيار "الوسطي" وليعلن بهذا عمليًّا خروجه من قوى 14 آذار إلا أنه لم يلتحق بقوى 8 آذار بل حاول أن يستميل القوة الشيعية الثانية، رئيس مجلس النواب ورئيس حركة أمل، نبيه بري، إلى الوسط(7)، لكن حكومة ميقاتي لم تُعمَّر طويلًا(8) (22 مارس/آذار 2013) حيث نشبت خلافات بينه وبين قوى 8 آذار كما هو شأنه مع قوى 14 آذار، ومع زعيم تيار المستقبل سعد الحريري بوجه خاص، وانتهى هذا التحالف تمامًا بانتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان.
وقد يقال: إن ما فعله جنبلاط في رئاسة الحكومة بترشيحه ميقاتي بدلًا من الحريري، يبدو أن جعجع يفعل مثله على صعيد الترشيح لرئاسة الجمهورية؛ فرشَّح عون في مقابل فكرة ترشيح الحريري لفرنجية، ولكن جعجع يصرُّ على عدم خروجه من 14 آذار، لأنها كما يقول، مجموعة مبادئ لا يزال يلتزمها كما هو شأن تيار المستقبل وحزب الكتائب وبقية مكوناتها، مع تأكيده على اختلاف وجهات النظر بخصوص مرشح رئاسة الجمهورية.
وهذا يقود إلى أن في خلفية ترشيح جعجع للجنرال عون مسارًا سياسيًّا فرضه الحريري، الذي "لم يُحسن إدارة المرحلة كما لم يحسن ما قبلها"، فمنذ ما بعد "ثورة الأرز" عام 2005 دخل في التفاهم الرباعي أو التحالف الإسلامي كما يحلو لبعض المسيحيين تسميته(9)؛ حيث تم التفاهم بين حركة أمل وحزب الله وتيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي، على حكومة واحدة أُلحق بها المسيحيون دون أن يكون لهم كلمة وازنة فيها؛ ما دفع الجنرال عون للخروج من 14 آذار لأنه أدرك أن عدم إعطائه الحيثية التي يستحقها في هذا التحالف يعني من باب أولى أن لا يكون مرشحًا لأية انتخابات رئاسية في الأفق المنظور.
وما جرى مع الحريري ينطبق على قوى 8 آذار من جهة أخرى، حيث لا يوجد في الأصل انسجام بين عون ورئيس حركة أمل نبيه بري، وما يجمع الطرفين هو التحالف مع حزب الله(10)، وليس سرًّا أن التيار الوطني الحر لم ولا يرغب بالتجديد لبري رئيسًا لمجلس النواب ما استطاع(11)، واختلف معه في أكثر من محطة لها علاقة بقضايا داخلية لبنانية حتى إنه -أي عون- طعن بشرعية التمديد الأخير للمجلس النيابي ما أثار غضب بري(12) كما احتدم الخلاف بين الطرفين حول جواز التئام البرلمان للتشريع رغم عدم انتخابه رئيسًا للجمهورية، فعون كان يرفض ذلك أمَّا بري فرأى أن هناك ضرورات تحتِّم ذلك وهو ما تم له بتسهيل من حزب الله. إن ثقة عون بحزب الله كبيرة حتى اللحظة وعبَّر عنها مرارًا باستجابته لوساطة الحزب بينه وبين بري وقدَّم تنازلات لهذا الأخير(13)، ويبني ذلك على تقديراته لقوة الحزب -فضلًا عن نفوذ إيران- في الطائفة الشيعية، وأن الحزب إذا ما قرَّر فإنه يستطيع أن يُقنع بري في نهاية المطاف بالتنازل وترشيح عون أو عدم معارضة هذا الترشيح على الأقل. مع العلم بأن عون لا يزال ملتزمًا بموقفه الأساسي كما يظهر ويعبِّر عنه عند اختلافه مع بري من حين إلى آخر، وملخصه: أن بري هو الوجه الآخر للحريري ولكن في 8 آذار، فهو من صانعي الطائف مع الحريري الأب وفق الصيغة السورية السابقة، الاتفاق الذي كرَّس هيمنة المسلمين على المسيحيين بحسب رواية عون، ويريد بري استمرار هذه الهيمنة ولو بالشراكة مع المستقبل(14).
وبهذا، فإن الترشيحات للرئاسة ليست متوافقة مع التحالفات القائمة (8 و14 آذار)؛ فهي مبنيَّة على تقديرات مختلفة داخل التحالف الواحد ومتأثرة جدًّا بتجربة اتفاق الطائف، ولكن في الوقت نفسه يُظهر كل طرف حرصه على التزام تحالفه؛ ما أسهم في إطالة أمد الفراغ وليبدو أن لا نهاية له في الأفق، إلا إذا تغيرت قواعد اللعبة الحالية.

الترشيح للرئاسة والطائف
قد يبدو سياق الخلاف داخل الساحة المسيحية على الرئاسة شخصيًّا لاسيما أن كلًّا من المرشحيْن المطروحين جدِّيًّا هما من قوى 8 آذار، كما أن اختلاف بري مع حزب الله في ترشيح عون قد يكون لتفضيله الأولوية المحلية بخلاف أولوية الحزب الإقليمية، وقد يكون ترشيح الحريري لفرنجية بخلاف بعض حلفائه وعدم تفضيله عون لمبررات تتصل بضعف ثقته بعون.
ولكن هذا الخلافات أعمق وترتبط بمستقبل الإقليم وبعلاقة الطوائف اللبنانية بعضها ببعض، أي باتفاق الطائف وما يمكن أن يلحق به من تغيير أو أن يحل مكانه آخر. صحيح أن المرشحين (فرنجية وعون) للرئاسة اللبنانية أقرَّا بانتظامهما تحت اتفاق الطائف ليكونا مقبوليْن بالحدِّ الأدنى من قوى 14 آذار، إلا أنهما يعكسان يأس المسيحيين من مستقبل التغيير في المشرق العربي؛ حيث أخذ الطائف من صلاحياتهم (خاصة صلاحيات رئيس الجمهورية) وامتيازاتهم في الدولة اللبنانية، كما أن ما يجري في المنطقة لا يُنبئ بأن التغيير في الإقليم سيكون لمصلحة تحسين ظروفهم في لبنان أو الحفاظ على ما أبقاه لهم الطائف من صلاحيات.
لذا، فإن أقصى ما يطمح إليه كل من الأحزاب المسيحية عمليًّا وراهنًا، إيجاد الحليف الذي يمهِّد السبيل إلى الرئاسة، ولكن على أن يكون في الأساس ضامنًا للوجود المسيحي في المشرق قبل كل شيء، وهو ما كان في اتفاق الطائف بعد إنهاء الحرب الأهلية اللبنانية(15). وهو ما نجده أيضًا وإن ضمنًا بوثيقة عون مع حزب الله(16)؛ حيث بدت في لحظة إعلانها وكأنها ضمان "شيعي إيراني" للوجود المسيحي إذا ما عجز الطائف -الذي سقط أحد أعمدته "سوريا"- لسبب ما عن توفيره، وهو حاضر أيضًا في الصورة التي قُدِّمت فيها وثيقة جعجع-عون(17)، وكأنها التزام مسيحي من الطرفين في مواجهة ما يتهدد وجودهم في هذه اللحظة.
 وهكذا، عندما يكون الخلاف دستوريًّا أو يرتبط بصلاحيات المواقع الثلاث رئاسة الوزراء (للسنَّة) ورئاسة الجمهورية (للموارنة) ورئاسة مجلس النواب (للشيعة)، فإن الانقسام بين اللبنانيين ينتهي إلى خلاف مسيحي-مسلم، ويتصدر الفعل السياسي أولئك الذين صنعوا الطائف وهم يشكِّلون فعليًّا حتى اللحظة البنية التحتية له، الحريري (14 آذار) بري (8 آذار) وجنبلاط (وسط) ويبدون وكأنهم يد واحدة، وهم يفضِّلون فرنجية، لأنه الشريك المسيحي الأفضل لمقاييس الطائف ومصلحة استمراره، وإلا فليكن البديل رئيسًا توافقيًّا من خارج الانقسام السياسي أي من خارج قوى 8 و14 آذار. أمَّا عون، فإن طموحه لتحسين شروط الطائف لصالح الرئاسة يجعله من دعاة تعديل الطائف أو حتى إسقاطه، وقد خبروا تصلبه واستعداده للذهاب بعيدًا في المفاوضات التي أفضت إلى اتفاق الدوحة عام 2008، وهم جادُّون في الحؤول دون وصوله للرئاسة ما استطاعوا ذلك.
أمَّا انقسام فريقي 8 و 14 آذار فهو لم ينشأ في الأصل بسبب الخلاف على الطائف ولا صلة له به، فقد نشأ بسبب الخلاف السياسي حول حصص ومغانم داخلية وحول الموقف من قضايا إقليمية ولكن تحت سقف الطائف، حتى إن هاتين القوتين قد تدخلان في مواجهات فيما بينهما ولو اتسمت بالعنف أحيانًا، لكنها تعود إلى الطائف وبمزيد من التفسيرات والشروح كي لا تخرج عليه.
 وربما هذان المستويان من الانقسام، يفسِّران الطرح الإيراني بالمُثالثة(18)، أي أن يقوم النظام اللبناني على سُنَّة وشيعة ومسيحيين بدلًا من مسلمين ومسيحيين مناصفة كما هو الطائف راهنًا، ليكون الانقسام على النظام أي الدستوري مطابقًا للانقسام السياسي والإقليمي، وسيسمح للشيعة بتحالفات طويلة تتسم بالاستراتيجية كما هي تكتيكية أحيانًا، وذلك بعيدًا عن الشريك السُّنِّي وعن المحيط العربي.
وبهذا الاعتبار، فإن مَن يبدو راهنًا أنه يحول دون المُثالثة هو الطرف المسيحي في 14 آذار، ومَن يحول دون انهيار الطائف تمامًا هو نبيه بري في 8 آذار، وبهذا، فإن الخلاف على الرئاسة إذا ما امتدَّ فإن كلًّا من تحالفي 8 و14 هما عرضة للتغيير ولو تحت سقف الطائف، أو ربما ينهار على الجميع إذا ما صادف لحظة تغيير إقليمية.
وعليه، فإن ما يمكن توقعه في مسار أزمة الرئاسة هو أن يفضي بمبادرة إقليمية محلية إلى انتخاب رئيس جديد وفق الطائف وبالتالي التمديد عمليًّا لهذا الاتفاق. أو استمرار الفراغ بغية التحضير لمؤتمر تأسيسي جديد طالما دعا إليه حزب الله ولو مواربة، ويستدعي هذا الأمر من حزب الله بالضرورة تحطيم العلاقة الدستورية بين الأطراف الرئيسية الثلاثة التي صنعت الطائف، أي جنبلاط-بري-والحريري، سعيًا إلى "المثالثة" أو ما يشبهها، وليتحول النزاع بكل المقاييس السياسية والدستورية إلى نزاع مذهبي، سُنِّي-شيعي، وسيكون على الآخرين أن يعيدوا تحالفاتهم على هذا الأساس، رغم أن ما سيكون معروضًا عليهم –خاصة المسيحيين منهم- أقل مما حصلوا عليه من الطائف بكثير(19).
استنتاجات وخلاصات
إن مصلحة المسيحيين تكمن في الالتزام باتفاق الطائف وربما كل اللبنانيين كذلك، خاصة في ظل الوضع المتفجر في المنطقة، ولكن حسابات الأطراف اللبنانية تقوم على التكهنات حول التغيير القادم، وهو الكامن وراء الجمود السياسي الذي يشهده لبنان. ويمكن استخلاص النقاط التالية التي تشرح مآل الوضع اللبناني:
1-  قد يكون تيار المستقبل الأكثر حرصًا على الانتخابات بأقل الخسائر لكن حزب الله وإيران يبحثون عن أفضل المكاسب، وهو الأمر الذي أطلق لعبة الترشيح والترشيح المضاد للرئاسة وبالتالي استمرار التعطيل، ما يحيل الأزمة إلى الرعاة الإقليميين، مع أن وقت المساومة واقتراح الحلول الإقليمية لم يحن بعد.
2-  أن موقف حزب الله من الترشيح لرئاسة الجمهورية مرتبط بما يسمح به الوضع الإقليمي وليس مستعجلًا له، لكنه حريص على أن لا يخسر حلفاءه المسيحيين، عون وفرنجية، وأولويته الحفاظ عليهما وليس الرئاسة. وهو يدرك أيضًا أن ترشيح حلفائه جاء من قوى 14 آذار، وسيسعى لتغيير الصورة ليكون المرشح الذي سيفوز من حلفائه إن حصلت الانتخابات، من ترشيحه هو قبل سواه.
3-  لا يريد تيار المستقبل التفريط بجعجع مع حرصه على استمرار العلاقة مع فرنجية إذا لم يكن تعزيزها، كما أن جعجع حريص على تمتين العلاقة مع عون لأن في ذلك مصلحة لكليهما، فعون يريد الرئاسة أمَّا جعجع فقد عاد لصدارة المشهد السياسي اللبناني كأحد صُنَّاع الرؤساء وليس مجرد مرشح على الورق بيد 14 آذار لمساومة عون.
4-  أن رفض بري لترشيح عون يربك ساحة حزب الله، ويؤكد أن بري ما زال ملتزمًا الطائف، وهو بمثابة تنبيه لحزب الله بأن بري مستعد للتمايز عند الحاجة، كما فعل إبَّان مفاوضات الدوحة -التي جاءت في أعقاب سيطرة حزب الله على بيروت في 7 مايو/أيار- وأفضت إلى انتخاب ميشال سليمان وليس ميشال عون.
5-  أن استمرار الشغور في منصب الرئاسة سيترك شهية إيران وحزب الله مفتوحة على المثالثة، أمَّا إذا ما حسمت الأطراف المسيحية وأعلنت تجديد تأييدها للطائف وبتأكيد غربي أو دولي، فإن حظوظ انتخاب رئيس جديد ستكون عالية جدًّا، وعندها سيكون لوثيقة جعجع-عون، دلالة سياسية وليست مجرد غطاء لمناورة محدودة لن تستمر طويلًا.
في الختام، إن ترشيح جعجع لعون إذا ما انتهى بجذب الأخير ولو للتقارب مع قوى 14 آذار فإنه سيفتح الباب نظريًّا أمام إعادة التحالفات السياسية مع تكريس لاتفاق الطائف. أمَّا إذا انجذب جعجع إلى قوى 8 آذار، فإن ذلك سيرفع من حظوظ الدعوة لمؤتمر تأسيسي جديد لتعديل الطائف أو إلغائه، وهو ما يدركه رئيس مجلس النواب الذي يمسك بمفتاح المجلس النيابي كما بمفتاح الطائف، ولهذا قال إنه آخر من سيقول رأيه بترشيح جعجع لعون(20)، لأنه يدرك أن ما يجري في الإقليم سيقرر المسار في لبنان: رئاسة وتمديد العمل بالطائف، أو مؤتمرًا تأسيسيًّا ومرحلة ما بعد الطائف، وكلاهما يسيران جنبًا إلى جنب في المسار اللبناني، وكلاهما محفوف بمخاطر حروب صغيرة أو حرب أهلية كبيرة.
أمَّا الاحتمال الأبعد؛ ففي أُفُقه نظرية افتراق مصالح إيران عن روسيا وهو ما تأمله أطراف لبنانية لاسيما أن روسيا أصبحت في الجوار اللبناني القريب بتدخلها في سوريا، وحينها قد تضع التطورات الإقليمية فرنجية وبري في منطقة وسطى قريبًا من روسيا وباستقلالية أكبر عن إيران، وحينها ستختلف حسابات الأطراف المحلية مرة أخرى.
__________________
باحث متخصص في المشرق العربي والحركات الإسلامية

1- صحيفة النهار اللبنانية، مجلس النواب يمدد لنفسه سنة و5 أشهر.. "صُدِق"، 31 مايو/أيار 2013.
http://www.annahar.com/article/37588-مجلس-نواب-يمدد-لنفسه-سنة-و5-اشهر..-صدق
تاريخ الدخول 21 يناير/كانون الثاني 2016.
2- انظر على سبيل المثال: التعيينات العسكرية، كيف تتم التعيينات في المجلس العسكري؟، تليفزيون إم تي في اللبناني، 7 يناير/كانون الثاني 2016:
http://mtv.com.lb/news/specials/556734/%D9%83%D9%8A%D9%81_%D8%AA%D8%AA%D9%85_%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B9%D9%8A%D9%8A%D9%86%D8%A7%D8%AA_%D9%81%D9%8A_%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AC%D9%84%D8%B3_%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B3%D9%83%D8%B1%D9%8A%D8%9F
وموقع النشرة، حناوي: تعيينات المجلس العسكري تحتاج إلى توافق سياسي، 23 يناير/كانون الثاني 2016:
http://www.elnashra.com/news/show/954887/%D8%AD%D9%86%D8%A7%D9%88%D9%8A-%D8%AA%D8%B9%D9%8A%D9%8A%D9%86%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AC%D9%84%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B3%D9%83%D8%B1%D9%8A-%D8%AA%D8%AD%D8%AA%D8%A7%D8%AC-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%AA%D9%88%D8%A7%D9%81%D9%82-%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A
تاريخ الدخول 21 يناير/كانون الثاني 2016.
3 – انظر: شفيق شقير، تداعيات الحراك الاجتماعي في لبنان وأبعاد الفراغ، مركز الجزيرة للدراسات، 15 أكتوبر/تشرين الأول 2015:
http://studies.aljazeera.net/reports/2015/10/2015101510501542507.htm
تاريخ الدخول 21 يناير/كانون الثاني 2016.
4 - انظر المؤتمر الصحافي لوزير المالية حسن الخليل، الوكالة الوطنية للإعلام، 5 أغسطس/آب 2015:
http://nna-leb.gov.lb/ar/show-news/172719/nna-leb.gov.lb/ar
تاريخ الدخول: 21 يناير/كانون الثاني 2016.
5 - انظر حوار جعجع على قناة إم تي في اللبنانية في برنامج بموضوعية، 20 يناير/كانون الثاني 2016:
https://www.youtube.com/watch?v=gLaUGoeQcfQ
تاريخ الدخول: 21 يناير/كانون الثاني 2016.
6- انظر: أفضى اتفاق الدوحة الذي عُقد بين 16-21 مايو/أيار 2008، بقوى 8 و14 آذار اللبنانية إلى انتخاب رئيس جمهورية جديد، قائد الجيش ميشال سليمان، وإقامة انتخابات برلمانية جديدة، وإلى تشكيل حكومة برئاسة سعد الحريري. يمكن الاطلاع على بعض وثائق الاتفاق على  الموقع الرسمي له، على الرابط الآتي: http://www.qatarconferences.org/lebanon/
تاريخ الدخول: 21 يناير/كانون الثاني 2016.
7- انظر موقع الوكالة لوطنية للإعلام نقلًا عن صحيفة اللواء اللبنانية، وفيه: جنبلاط يكشف عن "حلف رباعي"، 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2012:
تاريخ الدخول: 21 يناير/كانون الثاني 2016.
8 - انظر الجزيرة نت، ميقاتي يستقيل ويدعو لحكومة إنقاذ، 23 مارس/آذار 2013:
تاريخ الدخول: 21 يناير/كانون الثاني 2016.
9 - انظر محمد بلوط، ماذا بقيَ من 14 آذار منذ «ثورة السفير بولتون» إلى اليوم؟، الديار اللبنانية، 11 آذار 2014:
http://www.addiyar.com/article/618036-%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D8%A8%D9%82%D9%8A-%D9%85%D9%86-14-%D8%A2%D8%B0%D8%A7%D8%B1-%D9%85%D9%86%D8%B0-%D8%AB%D9%88%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%81%D9%8A%D8%B1-%D8%A8%D9%88%D9%84%D8%AA%D9%88%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%88%D9%85%D8%AE%D8%B1%D9%88%D8%AC-%D8%B9%D9%88%D9%86-%D9%88%D8%AC%D9%86%D8%A8%D9%84%D8%A7%D8%B7-%D8%A3%D8%AD%D8%AF%D8%AB-%D8%AA%D9%88%D8%A7%D8%B2%D9%86%D8%A7
تاريخ الدخول 21 يناير/كانون الثاني 2016.
10 - انظر ناجي يونس، عون قد لا يدعم التجديد لبري عام ٢٠١٣، موقع ناو، 4 أغسطس/آب 2012:
https://now.mmedia.me/lb/ar/%D8%A3%D8%B1%D8%B4%D9%8A%D9%81/%D8%B9%D9%88%D9%86_%D9%82%D8%AF_%D9%84_%D9%8A%D8%AF%D8%B9%D9%85_%D9%84%D8%AA%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF_%D9%84%D8%A8%D8%B1%D9%8A_%D8%B9%D9%85_%D9%A2%D9%A0%D9%A1%D9%A3
تاريخ الدخول 21 يناير/كانون الثاني 2016.
11 - إن موقف عون المتحفظ على تجديد رئاسة بري للمجلس النيابي قديم، انظر موقع ليبانون فايلز، العماد عون: بري حليف حليفي ولن أعطي جوابًا بشأن انتخابه رئيسًا للبرلمان المقبل، 27 مارس/آذار 2009:
http://www.lebanonfiles.com/news/112338
تاريخ الدخول 21 يناير/كانون الثاني 2016.
12-  انظر بهذا الخصوص صحيفة الديار اللبنانية، القوات وفرنجية غطَّوا التمديد مسيحيًّا وعون ضده وبري مستاء منه، 6 نوفمبر/تشرين الثاني 2014:
http://www.addiyar.com/article/819726-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%85%D8%AF%D9%8A%D8%AF-%D8%AF%D9%88%D8%B1%D8%A9-%D9%83%D8%A7%D9%85%D9%84%D8%A9-%D9%84%D9%84%D9%85%D8%AC%D9%84%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%8A%D8%A7%D8%A8%D9%8A-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D9%83-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AF%D9%86%D9%8A-%D9%82%D8%B7%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%B7%D8%B1%D9%82%D8%A7%D8%AA-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%88%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%82%D9%88%D8%A7%D8%AA
تاريخ الدخول 21 يناير/كانون الثاني 2016.
13 - انظر نقولا ناصيف، نصر الله يدخل على خط نزاع بري-عون، صحيفة الأخبار، ١١ نوفمبر/تشرين الثاني ٢٠١٥:
http://www.al-akhbar.com/node/245756
تاريخ الدخول 21 يناير/كانون الثاني 2016.
14- انظر صحيفة الأخبار اللبنانية، بري وعون: إبراهيم على خط العلاقة المستعصية، ١٠ أغسطس/آب ٢٠١٥:
http://www.al-akhbar.com/node/239608
تاريخ الدخول 21 يناير/كانون الثاني 2016.
15 - جعلت الأطراف الدولية والإقليمية الراعية لاتفاق الطائف، مجموع "المسلمين" كطرف واحد من جهة ومجموع "المسيحيين" كطرف آخر من جهة أخرى وجعلت السلطة بينهما بالمناصفة. ولكن المسلمين بحسب الطائف، هم: السُّنَّة والشيعة والدروز والعلويون، أمَّا "المسيحيون" فهم بقية الطوائف المسيحية، وبهذا كل الطوائف اللبنانية خاصة الإسلامية منها لديها التزام بالطائف وما فيه من ضمانات للمسيحيين ويشملها جميعًا بوضوح ولا سبيل لأيٍّ منها أن ينقلب عليه.
16- انظر نص وثيقة التفاهم بين حزب الله والتيار الوطني الحر المعلنة بتاريخ 6 فبراير/شباط 2006، موقع المقاومة الإسلامية، بدون تاريخ:
http://www.moqawama.org/essaydetailsf.php?eid=467&fid=19
تاريخ الدخول 20 يناير/كانون الثاني 2016.
17- أهم ما تضمنته تأكيدها على التزام اتفاق الطائف و"ضبط الأوضاع على طول الحدود اللبنانية-السورية في الاتجاهين، وعدم السماح باستعمال لبنان مقرًّا أو منطلقًا لتهريب السلاح والمسلحين". ولم تتضمن أية إشارة لسلاح "حزب الله"، لكنها تضمنت التأكيد على بسط سلطة الدولة اللبنانية على كامل أراضيها و"عدم اللجوء إلى السلاح والعنف". انظر نص بنود التفاهم والتي جاءت تحت اسم "إعلان النوايا" في موقع حزب القوات اللبنانية، والتي أُعلنت على الرابط أدناه:
تاريخ الدخول 20 يناير/كانون الثاني 2016.
18- ميشال نصر، مخاوف المثالثة تجمع جنبلاط بالحريري بعد حسم المستقبل لحدود التفاهم مع عون، الديار اللبنانية، 8 يونيو/حزيران 2014:
http://www.addiyar.com/article/757942-%D9%85%D8%AE%D8%A7%D9%88%D9%81-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AB%D8%A7%D9%84%D8%AB%D8%A9-%D8%AA%D8%AC%D9%85%D8%B9-%D8%AC%D9%86%D8%A8%D9%84%D8%A7%D8%B7-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D9%8A%D8%B1%D9%8A-%D8%A8%D8%B9%D8%AF-%D8%AF-%D8%AD%D8%B3%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D8%AA%D9%82%D8%A8%D9%84-%D9%84%D8%AD%D8%AF%D9%88%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%81%D8%A7%D9%87%D9%85-%D9%85%D8%B9-%D8%B9%D9%88%D9%86%D8%B1%D8%B3%D8%A7%D9%84%D8%A9
غسان حجار، المثالثة مطلب شيعي قديم، النهار اللبنانية، 10 يونيو/حزيران 2014
http://newspaper.annahar.com/article/140282-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AB%D8%A7%D9%84%D8%AB%D8%A9-%D9%85%D8%B7%D9%84%D8%A8-%D8%B4%D9%8A%D8%B9%D9%8A-%D9%82%D8%AF%D9%8A%D9%85
تاريخ الدخول 20 يناير/كانون الثاني 2015.
19- لأنه ببساطة، ليست المناصفة كالمثالثة، إذا ما اتفق السنَّة والشيعة سيفوقون المسيحيين قوة، بينما مع الطائف إذا ما اختلف المسلمون فإنهم يضعفون أمَّا إذا اتفقوا فإنهم يعادلون المسيحيين قوة نسبيًّا. انظر: إميل خوري، الموارنة قد يخسرون إذا عُدِّل الطائف: المناصفة تُصبح مثالثة والرئاسة الأولى مداورة، النهار اللبنانية، 28 إبريل/نيسان 2015:
http://newspaper.annahar.com/article/232488-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%88%D8%A7%D8%B1%D9%86%D8%A9-%D9%82%D8%AF-%D9%8A%D8%AE%D8%B3%D8%B1%D9%88%D9%86-%D8%A5%D8%B0%D8%A7-%D8%B9%D8%AF%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B7%D8%A7%D8%A6%D9%81-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%86%D8%A7%D8%B5%D9%81%D8%A9-%D8%AA%D8%B5%D8%A8%D8%AD-%D9%85%D8%AB%D8%A7%D9%84%D8%AB%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A6%D8%A7%D8%B3%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D9%84%D9%89-%D9%85%D8%AF%D8%A7%D9%88%D8%B1%D8%A9
تاريخ الدخول 25 يناير/كانون الثاني 2016.
20- انظر  صحيفة المستقبل اللبنانية، بري: سأكون آخر من يتخذ موقفًا من ترشيح جعجع لعون، 21 يناير/كانون الثاني 2016:

تاريخ الدخول 23 يناير/كانون الثاني 2016.

نشرت الورقة في موقع مركز الجزيرة للدراسات بتاريخ الإثنين, 01 فبراير, 2016 11:27 مكة

الثلاثاء، 23 يوليو 2013

يا ليت السماء تمطر حبا

يا ليت السماء تمطر حبا فأزداد لك عشقا ويا ليت اﻷرض تثمر إخلاصا فأزداد منك قربا، بعد أن تملك مني العجز وفقدت الرؤية: ﻻ أملك إﻻ التمني. فليذو الجسد عضوا عضوا فلعله يسري في أديم اﻷرض حيث يقنت عابد على قدميه وقوفا، ولتتبخر الروح روحا روحا فلعلها تكون هواء يتنفسها تائب يرجو الخلاص من إثمه، أو تكون آخر زفرات بعد آخر دمعة وآخر لمحة لنفس ترتقي أو تغادر الدنيا.
شفيق شقير
رمضان/ ليلة 23 يوليو 2013‫

معركة القصير السورية: تبعات تدخل حزب الله اللبنانية والاقليمية

مركز الجزيرة للدراسات
معركة القصير السورية: تبعات تدخل حزب الله اللبنانية والاقليمية

آخر تحديث : الأربعاء 08 مايو 2013 10:36 مكة المكرمة

أكد أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله في كلمته بتاريخ 30 إبريل/نيسان 2013 أن انغماس حزب الله عسكريًا في الوضع السوري يعبّر عن توجه استراتيجي هدفه عدم السماح بسقوط نظام الرئيس بشار الأسد(1)، وهذا يضع أعباء إضافية على الحزب الذي عليه أن يعيد تموضعه لبنانيًا وإقليميًا كجزء من استراتيجية تسمح له بالتكيف مع التغيرات التي يتعرض لها عمقه الحيوي السوري والمنطقة(2)، فضلاً عن استعداده الدائم لحرب متوقعة مع إسرائيل، كما عليه في الوقت عينه أن يواجه التطورات الميدانية المتسارعة في الضفة السورية، ووفق إيقاع دقيق يتلازم مع السياسة الإيرانية الكبرى في منطقة المشرق العربي.
معركة القصير.. الظروف والأبعاد
أعلن حزب الله في وقت مبكر تحفظه على "الثورة السورية" وتبنى خطاب النظام السوري في انسجام مع الموقف الإيراني الذي كان أكثر وضوحًا في دفاعه عن النظام السوري. ومع تعاظم حجم وقوة المعارضة السورية في مواجهة الرئيس الأسد، كان وقوف حزب الله إلى جانب النظام في تصاعد مواز حتى بلغ ما بلغه مؤخرًا، من الوقوف معه عسكريًا جنبًا إلى جنب في أكثر من موضع على الأراضي السورية، لاسيما حسب المعلن، حول المقامات الدينية هناك لحمايتها، ولحماية المناطق التي يوجد فيها لبنانيون وتحديدًا على الحدود مع منطقة الهرمل اللبنانية في ريف القصير السوري وهم من "الشيعة"، لأن الدولة اللبنانية يتعذر عليها الوصول للأراضي السورية وحمايتهم وحماية أملاكهم لأسباب شتى.
واتخذت المعركة في ريف القصير منحى تصعيديًا كبيرًا حيث سيطر حزب الله على أغلب القرى السورية التي تقع غرب نهر العاصي، وسقط له فيها قتلى بأعداد أكثر من الوتيرة السابقة (بغضّ النظر عن أعدادهم التي تقدرها مصادر المعارضة السورية بالعشرات، وذهب أمين عام حزب الله السابق صبحي الطفيلي بعد معركة القصير إلى أنهم 138 قتيلاً(3)) ليصبح في مواجهة مدينة القصير، ما يؤشر إلى تعاظم دور الحزب العسكري ميدانيًا في هذه المنطقة؛ الأمر الذي تطلب من السيد نصر الله إطلالة مبكرة في نهاية إبريل/نيسان -وكان من المقرر أن تكون في 9 مايو/أيار(4)- ليوضح فيها عاجلا سبب هذا التطور.
ولمعركة القصير صلة بالأوضاع الأمنية الآخذة في التدهور في دمشق وكذلك في معظم المناطق الحدودية الأخرى مع لبنان، والسيناريو الأكثر ترجيحًا هو أن ينقطع التواصل الجغرافي الآمن بين لبنان وسوريا ما سيؤثر على خطوط التنسيق والإمداد بين حزب الله ودمشق، كما سيضعف من الصلة بين قوى 8 من آذار ونظام الرئيس بشار الأسد. في هذا السياق يمكن قراءة "معركة القصير" بلغة حزب الله على أنها "إجراء وقائي" شبيه بذاك الذي كان في بيروت في 7 مايو/أيار 2008 "لحماية المقاومة"(5) أي حزب الله، واستعادة المبادرة لضخ الأمل مرة أخرى في قوى 8 آذار اللبنانية التي لا يزال النظام السوري فاعلاً أساسيًا فيها(6).
وأحد أهم التداعيات المباشرة على الأرض السورية لتدخل الحزب الأخير، هو المزيد من الاستدعاء من قبل المعارضة السورية للجماعات الإسلامية الموصوفة بالتشدد –كما لغيرها من مسلحي المعارضة- في مواجهة تمدد حزب الله، كي تخلق توازنًا عسكريًا معه في تلك المنطقة على وجه الخصوص، كما فعلت مع الجيش السوري النظامي في مناطق عدة من الجبهات المشتعلة. وهذه الحالة قد يقال: إنها تُغذّى لأسباب لها صلة بالضغط على المجتمع الدولي ووضعه أمام خيارين: تعزز نفوذ "الجماعات المتطرفة" في سوريا أو العمل على نجدة الشعب السوري لقطع أسباب "التطرف"، لكن تبقى هذا الحالة بالدرجة الأولى مطلبًا ضروريًا للمعارضة السورية لتمتين جبهتها المسلحة، لأن هذه الجماعات -إلى جانب حركات إسلامية أخرى- لا تزال تمثل العمود الفقري للمعارضة في أكثر من جبهة، وهي الأشد ثباتًا في الميدان. وهذه الصورة ستكون إحدى أبرز صور النزاع الطائفي في المنطقة "حربًا ضروسًا بين إسلاميين: سنة وشيعة"، وربما ستكون القصير أيضًا البقعة الجغرافية التي قد تغض القوى الغربية البصر عن تسرب "جماعة النصرة" ومثيلاتها إليها، في مقابل تدخل حزب الله لتكون المعركة بين "إرهابيين".
لبنان ومرحلة ما بعد القصير
استقالت الحكومة اللبنانية برئاسة نجيب ميقاتي(7) في 22 مارس/آذار 2013، وانكشف المشهد اللبناني على أزمة تشكيل حكومة جديدة برئاسة تمام سلام، وأزمة إيجاد قانون انتخابي يرضي جميع الأطراف وذلك قبل أن تنتهي المهلة التشريعية للمجلس النيابي في 19 مايو/أيار، حيث يجب على المجلس النيابي أن يقر قانونًا انتخابيًا قبل هذا التاريخ أو أن يمدد لنفسه، وقد لا يسلم هذا التمديد من الطعن القانوني فيه؛ لذا تتصاعد الأصوات المحذرة من الفراغ.
جاءت معركة القصير في هذه الظروف الشبيهة بالفراغ إذا لم يكن الفراغ عينه، وكأن سقوط حكومة ميقاتي إيذان بسقوط آخر ما تبقى من "سياسة النأي بالنفس" التي كانت الحكومة المستقيلة تتخذها شعارًا لها، ولتفتح الباب أمام معادلة جديدة يبادر حزب الله ومن معه لتشكيلها تقوم على أساس جديد في ما خصّ الشأن السوري جوهرُها أن وقوف اللبنانيين إلى جانب النظام السوري، هو مطلب وطني لبناني ومسألة حيوية "للمقاومة" في وجه إسرائيل، وأن وقوفهم إلى جانب الطرف المقابل أي المعارضة السورية، هو وقوف في وجه "المقاومة" -أي حزب الله- وهو لا يزال يتسامح إزاء القوى اللبنانية المؤيدة للمعارضة السورية –خاصة في الجانب العسكري- لأسباب تتعلق بأمن لبنان وظروفه. والمطلوب بالمقابل من الأطراف الأخرى تفهّم حاجة حزب الله هذه وتوفير الضمانات لها في صيغة التشكيل أي للحكومة الجديدة أو في طريقة إدارتها أو من خارجهما وإلا سيتعثر تشكيل الحكومة.
والجدير بالذكر أن إعلان حزب الله عن دوره المتصاعد في سوريا جاء متدرجًا سياسيا، فكان ينفي التدخل المباشر في الأحداث بسوريا، ثم اعترف "بدعم لبنانيين" شيعة في مناطق حدودية سورية مع لبنان للدفاع عن أنفسهم والبقاء في أرضهم، إلى أن اعترف بالتدخل المباشر و"الدفاع عن المقامات الدينية الشيعية" هناك ثم الوقوف إلى جانب الرئيس الأسد، وتبنى خطابا مذهبيا عالي الأدلجة ضد الثوار بوصفهم "إرهابيين" ضد الشيعة، ما ساهم في إقناع شرائح من جمهوره لتكون معه في حربه هذه، فضلا عن تهيئة ما أمكنه من القاعدة الشيعية وكذلك بعض نخبها لتتفهم دوافعه، ومن المحتمل جدًا أن يكون مقدمة لتدخل عسكري أكبر في سوريا، لأنه لم يعهد من الحزب أن يتبرع بالمعلومات حول نشاطاته -خاصة تلك التي يعرف سلفًا أنها ستجعله أكثر عرضة للإحراج- إلا لتصعيد يليها.
وفي مقابل ذلك، خرجت دعوات بالمقابل من الشيخ أحمد الأسير في مدينة صيدا الجنوبية والشيخ سالم الرافعي في مدينة طرابلس "لنصرة الثوار" في القصير والتطوع لمواجهة "الاعتداءات التي يقوم بها حزب الله" والجيش السوري النظامي ضد الشعب السوري، وتبنى كل منهما خاصة مؤيدو الشيخ الأسير كما هي عادتهم، خطابًا مستنسخًا من خطاب حزب الله في بعض صوره، مفاده أنهم يسعون "لحماية اللبنانيين في سوريا والدفاع عن المقدسات لاسيما المساجد التي تُسوّى بالأرض" كما وزعوا شريطًا مصورًا يظهر الشيخ الأسير إلى جانب مقاتلين في القصير وذلك في سياق التصعيد الإعلامي بين الطرفين.
والموقف الذي أعلنه الشيخان اللذان يشكّلان مرجعية محدودة في الشارع السني حتى الساعة، قياسًا إلى الشعبية والنفوذ اللذين يحظى بهما حزب الله في الطائفة الشيعية، لن يلقى إلا تجاوبًا محدودًا فيما خص المشاركة العسكرية إلى جانب "الثورة السورية"، لكنه قد يساهم راهنًا في إرباك خطاب حزب الله وخلق عراقيل محلية في مواجهة قراره التدخل العلني والواضح في الأزمة السورية. وهذا لا يمنع أن موقف الشيخين يلقى ترحيبًا عامًا من قبل السنة في لبنان "كخطاب تصعيدي" ما قد يمهد لعسكرة الطائفة السنية على المدى المتوسط، خاصة إذا لم تستطع القوى السنية التقليدية ذات الخطاب العابر للطوائف، أن تنجح في ضبط حزب الله ووجهة بندقيته.
هذا المشهد بجملته سيكرس استراتيجيات مذهبية في لبنان، وإذا أضيف إليه أن الخلاف حول الثورة السورية ليس محصورًا بالشأن المذهبي إنما يشهد أيضًا انقسامًا سياسيًا بين قوى 8 و14 آذار وعلى أسس وطنية، سيجعل من الانقسام مركبًا ما بين السياسي والمذهبي وسيجعل مواجهة أي استحقاق سياسي في لبنان -مثل تشكيل الحكومة، الانتخابات البرلمانية، وما إلى ذلك- بحاجة لاتفاق شبيه باتفاق الدوحة 2008(8) الذي سقط بسقوط حكومة الرئيس سعد الحريري في 12 يناير/كانون الثاني 2011؛ حيث أثبت الواقع اللبناني منذ الانسحاب السوري من لبنان، أنه لا يوجد ضامن لأي اتفاق بين اللبنانيين لانعدام الثقة بينهم، ولتداخل الإقليمي مع المحلي بصورة عضوية ومباشرة.
دور حزب الله الإقليمي
إن تصاعد العقوبات الدولية على إيران وتعدد محاور عزلها عن العالم أو التهديد بضربها، جعلا طهران أكثر تمسكًا بالأوراق القوية التي تملكها في المنطقة في العراق واليمن وسوريا ومنها لبنان، وعلى صعيد هذا الأخير من الملاحظ أن حزب الله بعد حرب عام 2006 أصبح أكثر اتساقًا في خطابه وأدائه مع خطاب ومتطلبات إيران في المنطقة، وذلك بغض النظر عن التبريرات التي يحاول أن يعطيها أبعادًا تتصل بالمقاومة ومواجهة إسرائيل ومن معها.
إن تعرض الجبهة -سوريا وإيران- التي ينتمي إليها حزب الله للحصار واحتمال ضربها عسكريًا، يتطلب منه التمسك بدوره الإقليمي ولو على حساب الواقع اللبناني أو على حساب علاقاته التاريخية مع نظرائه السنة من الإسلاميين، لأسباب أصبحت مفهومة تتعلق ببنيته "ومشربه المذهبي الخاص" والمرن-الشبيه بمرونة الخطاب الإيراني وقدرته على عكس البعد المذهبي والإسلامي والوطني وفق التحديات- ذي القدرة الفائقة على استثارة الخطاب المذهبي والقفز فوق الإسلامي والوطني عند الحاجة، وكذلك لأنه بنى "مقاومته" نفسها على معادلة إقليمية معقدة جوهرها قراءة إيرانية متعددة الأبعاد، تقوم في بعدها العقائدي الأيديولوجي على ولاية الفقيه، وفي بعدها الجيوسياسي على ظهور عُلو يد إيران على من سواها في الإقليم، وذلك سواء "بالشراكة" مع العرب كما هي علاقتها التاريخية مع النموذج "السوري" أو بدونهم كما هي علاقتها المتوترة غالبًا مع "دول الخليج".
والترابط الإيراني-السوري ومن ورائه تحالف حزب الله مع الرئيس بشار الأسد ليس بالضرورة سيستمر بنفس القوة الراهنة خاصة إذا ما تغيرت الظروف لاسيما وأن طهران تملك مساحة للمناورة. فهناك رؤية إيرانية أخرى في ثنايا خطابها التقليدي تفترض وجود معارضة إصلاحية سورية ضد النظام، وأن إيران حريصة على وقف الدم السوري كي لا يغرق الجميع بحرب أهلية طويلة الأمد؛ لذا هي تقول: إن أبوابها مفتوحة لأي حوار بين المعارضة والنظام لإيجاد حل سياسي، وتأمل أن تفتح في ظل هذا الخطاب علاقات مع أطياف سورية عدة مرشحة لأن تكون فاعلة إذا ما انتهت حقبة الأسد، وتكون أكثر تقبلاً للتحالف معها عند الحاجة.
لكن حاليًا يأتي تأكيد المرشد علي خامنئي المتكرر على أن ما يجري في سوريا هو حرب على إيران نفسها وعلى قوى الممانعة وأن المعارضة المسلحة "تُدعم من الصهيونية وأميركا وبعض دول الخليج"، ليحسم الجدل في أن التحالف الاستراتيجي في الظروف الراهنة مستمر حتى آخر بقعة سورية يلجأ إليها الرئيس بشار الأسد ويرفع عليها العلم السوري.
وفي هذا السياق المتعدد للخطاب الإيراني تتموضع معركة القصير إقليميًا، وتعيد الحديث عن إيجاد جغرافيا آمنة لنظام الرئيس بشار الأسد في حال تدهور الأوضاع في دمشق وانعدام الأمن فيها فضلاً عن سقوطها، وهي المنطقة الممتدة ما بين حمص واللاذقية، وبهذا تكون مطلبًا إيرانيًا وسوريًا وهمزته الواصلة هو حزب الله والقرى الشيعية الحدودية في ريف القصير أو قُل: غرب نهر العاصي، لأن تعثر الصلة بين القاعدة الخلفية لحزب الله في منطقة الهرمل اللبنانية وجوارها والامتداد السوري، ستخلق أوضاعًا لوجستية صعبة لحزب الله، لمواجهة أية تطورات خلال هذه المرحلة الراهنة على الأقل التي قد تتطلب منه مددًا مستمرًا من السلاح، لاسيما في حال تجدد المواجهة العسكرية مع إسرائيل بشكل واسع لأي سبب، وكذلك في حال تعرض إيران لأية ضربة عسكرية قد تتطلب من الحزب أن يكون جزءًا من الرد، فضلاً عن استمرار قوى التحالف الإيراني-السوري في لبنان، أي قوى 8 آذار.
وجاء تقدم حزب الله نحو ريف القصير لما يؤمّنه من حاضنة شيعية خالصة وقاعدة ولو محدودة لحزب الله داخل الأراضي السورية تعزز قدرته على المبادرة، ولما قد يوفره من الدعم المتبادل مع النظام السوري إذا ما استقرت المحاور العسكرية بين النظام والمعارضة لتصبح حربًا أهلية طويلة، فيحافظ الحزب على مكاسبه السياسية واللوجستية في لبنان، ويصبح الانقسام اللبناني في هذه الحالة مشدودًا بالكامل إلى الانقسام السوري.
كما أن التقدم نحو القصير يشكّل استجابة لضرورة المرحلة إذا ما كانت المنطقة الحدودية اللبنانية السورية مقبلة على التدويل، بما يقطع الصلة بين لبنان وسوريا على حزب الله ومؤيديه، وهناك سيناريوهات متعددة قد تشبه بنتائجها -وليس بالضرورة بأسبابها- ما أسفرت عنه حرب 2006 مع إسرائيل وتم بموجبها إبعاد حزب الله إلى ما وراء شمال نهر الليطاني (9)، وبالتالي إبعاده في هذه الحالة بعيدًا عن الحدود مع سوريا.
استنتاجات
إن كل الاحتمالات التي قد تؤول إليها الأزمة في سوريا تتقاطع عند حزب الله بضرورة الإسراع بإعادة التموضع عسكريًا في لبنان مع محاولة الاحتفاظ برصيده السياسي مع حلفائه وكذلك الحفاظ على حاضنته الشعبية، والتركيز على زيادة مخزونه العسكري في لبنان وتطوير دوره العسكري في سوريا بطرق مختلفة، لثقته بأن الاضطرابات في سوريا ستستمر طويلاً سواء أسقط نظام الأسد أم صمد لمدة أطول، بنى دويلة أم لجأ لجغرافيا آمنة، بقيت سوريا موحدة أم تقسمت، والعراق شاهد على هذا التحليل فهو أكثر تماسكًا من سوريا القادمة ولا يزال مضطربًا وساحة لكل الأطراف.
ولكن هناك احتمال واحد يستبعده حزب الله ومن ورائه إيران، وربما هو الوحيد الذي يحد من دورهما الفاعل في سوريا، ألا وهو قيام دولة سورية متماسكة من جديد بصيغة ما أو باتفاق دولي أو إقليمي ما، دون أن يكون لهما يد فيه، وهو ما يؤكده حزب الله مرارًا بأن الحل في سوريا هو سياسي ولن نتخلى عنها، أي يجب أن نكون جزءًا من الحل ورعاته.
والخلاصة من معركة القصير أنها افتتحت دورًا إقليميًا جديدًا لحزب الله في سوريا، سيضعه في سياق جبهتين عسكريتين الواضح منهما: أن إحداهما دفاعية في مواجهة إسرائيل ولا تخفى مبرراتها الوطنية اللبنانية، وأخرى هجومية ضد المعارضة السورية، وهي تختزن أبعادًا وحسابات طائفية -لبنانية وإقليمية- رغم كل الحديث عن وجود أبعاد أخرى قد تتصل "بالمقاومة" ودورها في المنطقة.
وأضافت هذه المعركة لبنانيًا معضلة أخرى ووظائف أخرى لسلاح حزب الله في لبنان؛ فمشروعية سلاح حزب الله بعد معركة القصير لم تعد مرتبطة بحماية لبنان من إسرائيل أو بحفظ أمن اللبنانيين من عدوانها فقط، بل بأمن "الشعب اللبناني" في سوريا أو حيث تتخلف الدولة عن حمايتهم، وعلى الاستراتيجية الدفاعية اللبنانية المطروحة بين قوى 8 و14 آذار أن تلحظ ذلك.
إن قدرات حزب الله العسكرية حيث تتوجه فإنها تكرس أعرافًا سياسية جديدة ستزيد من صعوبة التحاور بين الأطراف اللبنانية المتنازعة، وستزيد من ربط الأزمة اللبنانية خاصة إذا ما توسع مفهوم "حماية المقاومة" بالأزمات في الإقليم، بدءًا من سوريا مرورًا بالعراق وصولاً إلى إيران.
___________________________________
شفيق شقير - باحث متخصص في المشرق العربي والحركات الإسلامية
الهوامش
1- قال السيد حسن نصر الله في خطابه هذا بكل وضوح: إن "أصدقاء سوريا، الإقليميين والدوليين، لن يسمحوا بسقوطها بيد أميركا أو إسرائيل أو الجماعات التكفيرية". ويمكن العودة لخطابه على الرابط أدناه:
http://www.youtube.com/watch?v=wGsGF0CJ5tE
2- حول إعادة تموضع الحزب لبنانيًا وإقليميًا، انظر: حزب الله: الدور في سوريا وانعكاساته اللبنانية، 8 نوفمبر/تشرين الثاني 2012، مركز الجزيرة للدراسات.
http://studies.aljazeera.net/reports/2012/11/201211881910626271.htm
3- ذهب الأمين العام السابق الشيخ صبحي الطفيلي، والذي على خلاف مع السيد نصر الله، في مقابلة متلفزة بتاريخ 24 إبريل/نيسان 2013 إلى أن خسائر حزب الله في سوريا تصل إلى 138 قتيلاً. يمكن الاطلاع على المقابلة على الرابط أدناه: http://www.youtube.com/watch?v=_ArI6SdQDJ8
4- أوساط حزب الله أعلنت مسبقًا أن السيد نصر الله التقى خامنئي في إيران وأنه سيكون له إطلالة على جمهوره في 9 مايو/أيار احتفاء بذكرى تأسيس وسيلة إعلامية تتبع للحزب. انظر موقع النهار نت على الرابط التالي: http://www.naharnet.com/stories/ar/80214
5- شهد لبنان في 7 مايو/أيار 2008 انتشارًا عسكريًا واسعًا سيطر من خلاله حزب الله على أجزاء واسعة من بيروت وضواحيها بهدف حماية شبكة الاتصالات الخاصة بحزب الله "وحماية المقاومة".
6- التقى الرئيس بشار الأسد وفدًا يمثل "الأحزاب اللبنانية" وتحديدًا قوى 8 آذار في 21/4/2013، وذلك بالتوازي تقريبًا مع التصعيد العسكري في ريف دمشق والقصير.
7- انظر استقالة الحكومة اللبنانية، موقع الجزيرة نت،
http://www.aljazeera.net/news/pages/91809f9a-441a-4b51-a31b-5343527412c4
8- أفضى اتفاق الدوحة الذي عُقد بين 16-21 مايو/أيار 2008، بقوى 8 و14 آذار اللبنانية إلى انتخاب رئيس جمهورية جديد، قائد الجيش ميشال سليمان، وإقامة انتخابات برلمانية جديدة، وإلى تشكيل حكومة برئاسة سعد الحريري. يمكن الاطلاع على بعض وثائق الاتفاق على الموقع الرسمي له، على الرابط الآتي:
http://www.qatarconferences.org/lebanon/
9- انتهت حرب يوليو/تموز 2006 بقرار مجلس الأمن الدولي 1701 الذي نص فيما نص عليه إضافة إلى "إنهاء العمليات القتالية"، أن تنسحب قوة حزب الله إلى شمالي نهر الليطاني وانتشار الجيش اللبناني هناك.

الأحد، 11 نوفمبر 2012

حزب الله: الدور في سوريا وانعكاساته اللبنانية

شفيق شقير
آخر تحديث : الخميس 08 نوفمبر 2012 14:43 مكة المكرمة




اتكاء المقاومة على محور الممانعة وسوريا منه، يتناقض مع سياسة النأي بالنفس للحكومة اللبنانية(الجزيرة)

أثار اغتيال وسام الحسن رئيس فرع المعلومات -أحد أهم الأجهزة الأمنية اللبنانية- بعد توجيه أصابع الاتهام نحو النظام السوري، الأسئلة الصعبة في لبنان، أهمها صعوبة التوفيق بين سياستين وإستراتيجيتين تعتملان في قلب الحكومة اللبنانية، مع التنويه إلى التفاوت في مقدار شرعية وقبول كل منهما، سواء في الإطار الرسمي أو غير الرسمي.
 
الإستراتيجية الأولى، وهي التي قامت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي على أساسها، والمعروفة بسياسة النأي بالنفس عما يجري في سوريا بغية تجنب تأثيراتها السلبية على لبنان، وأصبحت هذه السياسة المرجع الأساس الذي تحاكم سياسة الحكومة الداخلية والخارجية على أساسه، مع تجاهل كل ما يجري بخلافها على غير الصعيد الرسمي.
 
أما الإستراتيجية الثانية، فهي الإستراتيجية الدفاعية التي طرحها حزب الله وتقوم على معادلة ثلاثية يصفها أنصارها بالذهبية، وتقوم على قوة "الجيش والشعب والمقاومة"، وهي السائدة فعليًّا في الواقع اللبناني وتحظى بمراعاة شديدة في كثير من أجهزة الدولة، وإن كان البعض يجادل في شرعيتها.
 
ويكمن جوهر التناقض بين الإستراتيجيتين في العنصر الأخير من هذه الثلاثية، أي المقاومة؛ فقد تُرجم هذا العنصر محليًّا لدى حزب الله وأنصاره بما سُمي محور المقاومة وتظلّل بقوى الثامن من أيار/مايو، إلا أنه في الحقيقة هو الذي ربط لبنان إقليميًّا بما يُسمى محور الممانعة والذي تُشكِّل سوريا قلبه إذا استثنيت إيران في هذا المقام. فكيف يمكن النأي بالنفس عما يجري في سوريا وهي حاضرة في ما يسميه حزب الله إستراتيجية لبنان الدفاعية؟ فسوريا بهذا الاعتبار هي جزء لا ينفصل عن "المقاومة" ببعدها المحلي والإقليمي.
 
حزب الله و دور إقليمي متصاعد
يضع حزب الله التخلي عن سوريا في مربع التخلي عن أحد أهم أسباب قوة المقاومة التي جُرِّبت سابقًا، ولا يزال يبرر وقوفه إلى جانب النظام السوري بأسباب عدة، أبرزها بحسب ما يثيره مقربون منه، حاجته إلى الحفاظ على "سلاح المقاومة" راهنًا، لاسيما الثقيل منه، والذي يرى بعض هؤلاء أنه مخزَّن في سوريا، وتحديدًا في مناطق جغرافية قريبة من الحدود اللبنانية.
 
ولم يعد الحزب حريصًا جدًّا على إخفاء أن عناصره تنشط في الداخل السوري استخباراتيًّا وعسكريًّا بمستويات عدّة ولأهداف كثيرة، منها الحفاظ على المواقع التي تشكّل أهمية إستراتيجية لعمل "المقاومة"، سواء على صعيد حفظ مخازن الأسلحة الثقيلة، أو حفظ طرق الإمداد، إضافة إلى رعاية بعض القرى الشيعية السورية الاثني عشرية وحماية المصالح المرتبطة بهذه الأقلية، خاصة وأن سوريا ستقع في فوضى كبيرة على إثر سقوط نظام الأسد، مما يتطلب تدخلاً مباشرًا يتجاوز السلطة التي قد تقوم وسط هذا الركام.
 
ويقوم التقدير السائد لدى إيران وحزب الله في بعض وجوهه على أن الساحة السورية ستكون شبيهة بالساحة العراقية والساحة اللبنانية إبّان مرحلة الفوضى التي مرّ بها البلدان؛ ما يعني أن الظروف ستسمح بتعدد الفاعلين المحليين والإقليميين. وسيكون على الحزب وفق أحد السيناريوهات أن يمد نفوذه الإقليمي إلى سوريا، وقد يصبح -بحسب بعض المتخوفين- قريبًا من حدود الأردن -ومن بعده الخليج- ثم تركيا، فيكون النفوذ بهذا القرب من قلب الإقليم -مهما كان متواضعًا- ذا فعالية مضاعفة، فيعوض الحزب ما خسره زمن سقوط الأسد، ببعض ما قد توفره له الفوضى وانعدام الأمن والاستقرار من بعده.
 
وقد وفّرت إستراتيجية الأسد للدفاع عن حكمه أساسًا يمكن للحزب أن يبني عليه في هذا الشأن، حيث تشي خريطة الأحداث على الأرض بأن الأسد سمح لعدة لاعبين بتعزيز نفوذهم ميدانيًّا على الأراضي السورية ليكونوا في مواجهة الأكثرية السكانية السورية حاضرًا ومستقبلاً، وكذلك ليكونوا في مواجهة الثورة حتى وإن لم يكونوا في الأصل من أنصاره. وكجزء من هذه السياسة يبدو أن نظام الأسد سمح لحزب الله -وسواه- بإنشاء ما يشبه المناطق الأمنية الخاصة به ليحمي عمقه الحيوي، سواء بالتعاون مع الأجهزة السورية أو وحده إذا ما اقتضى الأمر.
 
الخلاصة، وفق هذا التحليل، أن حزب الله سيزيد من الجرعة الإقليمية في توجهاته، ما سيبعده أكثر عن جذوره المحلية وعن خطابه المألوف سياسيًّا وثقافيًّا، ليلبي حاجة إيران الإقليمية المتزايدة كورقة ضغط فعالة، تكون على مستوى التحديات التي تواجهها في صراعها على جبهات متعددة مع عدة قوى إقليمية وعربية ودولية.
 
انعكاس سياسة الحزب على لبنان
أخذًا بالاعتبار هذه السيناريوهات، ووفقًا لإيقاع التحولات التي تشهدها الساحة السورية هناك تقدير بأن حاجة الحزب الآنية لإطلاق حوار وطني في لبنان ستتضاعف، لصالح البحث عن وضع يسمح بحفظ الأسلحة الثقيلة والمنظومة المتعلقة بها التي ينقلها أو نقلها من سوريا إلى لبنان. ويعني ذلك في المقام الأول خلق مناطق أمنية جديدة في لبنان، بما يوفر ظروف حمايتها لأطول مدة وأبعد مدى ممكن. وتحقيقًا لهذه الغاية غير المعلنة ووفق هذا المنطق، من المنطقي أن يلجأ حزب الله إلى إطلاق حوارات ثنائية صريحة متعددة مع أكثر من طرف، ولا يُستبعد أن التطورات اللاحقة ستدفعه لإحياء "طاولة الحوار الوطني" بجدية أكبر بغية مناقشة "الإستراتيجية الدفاعية"، لكنه سيحرص في نهاية المطاف على أن تكون وفق معاييره هو لا غيره.
 
حينئذ، لن يخلو "الحوار" من بعض التوتر السياسي والأمني، ولن يتردد حزب الله في استعمال السلاح -كما يخشى خصومه- ليفرض حقائق ورؤى تكرّس حدود المعادلة السياسية الجديدة في لبنان، ومفادها أن بناء الدولة اللبنانية يجب أن يأخذ بالاعتبار أن "سلاح حزب الله وطموحاته الخاصة" هي في الحقيقة "مسألة وطنية"، بل هي "سلاح المقاومة وطموحاتها" التي تحمي لبنان كل لبنان، والحزب والمقاومة أمرهما واحد.
 
وبذلك، فإن هذا الحوار الذي يجري تحت ضغوط أمنية وسياسية، سيكون بالنسبة إلى حزب الله توجهًا بديلاً عن إشعال حرب أهلية لبنانية جديدة يخسر فيها الجميع، وقد تقبل به أو ببعضه، بعد المساومة، أطراف لبنانية وربما إقليمية أيضًا.
 
مقتل الحسن ومسار الحوار
جاء اغتيال وسام الحسن في أعقاب هذه الأجواء المشبعة ببعض إيجابيات الحث على الحوار الوطني الذي التزمه رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال سليمان، والخوف لدى قوى الرابع عشر من آذار من السلبيات الذي قد تصاحبه، ليعزز قراءتين مختلفتين تكادان تشكّلان نمطًا واحدًا لفهم أية مستجدات أمنية لبنانية:
  • أولاهما: أن حزب الله سيستفيد من مقتل شخصية توازي إلى حدٍّ ما بأهميتها الأمنية رفيق الحريري في أهميته السياسية، وأن فريق الراحل وسام الحسن سينضم إلى طاولة الحوار وقد نُزِعت منه أهم ورقة كانت قد لعبت دورًا أساسيًّا في تتبع عورات كل معادلات قوى الثامن من آذار القائمة على التحالف مع سوريا. منها تلك الضربة الأخيرة التي كشفت تورط الوزير السابق ميشال سماحة في مخطط تفجيري وفق التسريبات الأمنية اللبنانية.
  • ثانيهما: أن حزب الله أمام توقيت سيء جدًّا فرضه مقتل الحسن، وسيشكّل عقبة حقيقية أمام أية مبادرة منه لإطلاق حوار يسمح له بإعادة التموضع محليًّا بما يتلاءم مع التحديات الإقليمية التي تواجهه سواء على المسار السوري أو الإيراني. وبهذا الاعتبار فإن الاغتيال أضرّ بحزب الله كما بسواه.

ولكن هاتين القراءتين تلتقيان -عند فاقدي الثقة بحزب الله- عند نقطة واحدة إذا ما أُخذت بالاعتبار التجارب السابقة، ألا وهي أن لبنان مقبل على "دبلوماسية قهرية" يمارسها الحزب بغرض تأمين بيئة صديقة له على الأراضي اللبنانية لتقبل الأطراف المعارضة بالمعادلة الجديدة ولو على مضض. وسواء عُقدت طاولة الحوار الوطني اللبناني اليوم أو بعده، فإن الحزب بحاجة على المدى القريب إلى إستراتيجية عاجلة تسمح له بالتكيف مع ما تعرض له عمقه الحيوي السوري من تشوهات، كما بحاجة على المدى المتوسط إلى إستراتيجية جديدة بالكامل يستغني بها عن العمق السوري، ليخلق عمقًا جديدًا داخل الأراضي اللبنانية مع توفير ما يحتاجه من متطلبات ثقيلة تسمح له بالاستمرار والنمو، وأن لا يخسر حاضنته الشعبية داخل المجتمع اللبناني.
 
خاتمة
وعلى العموم هناك إدراك لدى جميع اللاعبين داخل لبنان بأن إستراتيجية حزب الله المعتمدة حتى اللحظة هي المزيد من ربط العمق اللبناني بالعمق السوري باعتبارهما عمقًا إقليميًّا مترابطًا عسكريًّا وسياسيًّا بما يتجاوز الدولتين إلى سواهما. ولا يعني هذا بالضرورة جرّ لبنان إلى حرب أهلية، لكنه يتعلق حتمًا بالأوراق التي يمكن أن يكون لها تأثير على نتائج أي حوار سوري مقبل، سواء كانت أوراقًا تتصل بالبعد العسكري أو السياسي، وسواء كان ذلك على الصعيد الإقليمي أو الدولي. فمسار الحوار السوري سيحدد شكل طاولة حوار وطنية لبنانية ستقوم على أنقاض الطائف الذي سيسقط بسقوط أهم عرّابيه، ألا وهو النظام السوري.
لهذا تحرص الأطراف اللبنانية جميعًا على الاستعداد للانعكاسات التي قد تترجمها أية اتفاقات جديدة في سوريا لمرحلة ما بعد الأسد. وإن تكرار طائف جديد في سوريا أو الخروج عليه، سيجعل من طاولة الحوار اللبنانية، طاولة حوار إقليمية وربما دولية تبحث عن اتفاق آخر.
_______________
*باحث في شؤون المشرق العربي والحركات الاسلامية
المصدر: مركز الجزيرة للدراسات.